صباح السبت، كان موعده مع الشهادة، التى انتظرها بغرفة الرعاية المركزة فى قصر العينى لمدة عشرة أيام.. الانتظار لم يكن بسبب إدراكه -قبل دخوله فى غيبوبة كاملة- أنه تلقى رصاصة قاتلة اخترقت الرقبة فقط، ولكن لأنه كان لديه ما يمكن أن تسميه حدس الشهداء، ذلك حين داعب والدته صباح إصابته، سائلا «إنتى عايزة الجنة ولا النار؟»، وذلك ردا على استفساراتها المرتجفة من شدة الخوف عليه من استمراره فى النزول إلى ميدان التحرير وعدم قدرتها على التواصل معه من خلال الهاتف الذى سقط منه خلال محاولة إسعاف أحد الأشخاص ممن كانوا يسقطون لحظيا بشارع الموت «محمد محمود». أحمد صالح أو أحمد العجوز كما يطلقون عليه فى شوارع الست مستكة بالسيدة زينب، حيث كان الشاب الجميل يعيش قبل 21 عاما انتهت قبل أمس نزل إلى التحرير بعد أن قرأ على «فيسبوك» كآلاف غيره بواقعة الاعتداء على المصابين، ومنذ وصوله وهو لم يفارق شارع محمد محمود، إلا لحمل المصابين إلى المستشفى الميدانى، مر اليوم الأول والثانى، وهو -كما تحكى والدته- يتلقى الاتصالات منها «أنا كويس يا ماما.. لا اطمنى أنا بعيد عن الضرب»، ثم تلقت هى منه اتصالا بأن هاتفه المحمول قد ضاع وسيعود إلى المنزل اليوم، كان هذا فى مساء الأحد، وبصباح اليوم التالى تناول فطوره مع والدته التى كانت تصفه بأحن أبنائها. وقالت له إنها وفرت قسط معهد الحاسب الآلى الخاص، ويمكنه الذهاب وسداده بعد أن نجحت هى فى الوساطة مع الإدارة بتأجيل السداد لمدة أسبوعين حتى تتمكن من توفير المبلغ المطلوب. أكملت: أحمد خد منى الفلوس وباسنى فى رأسى، فقلت له يا أحمد إنت بتوجع قلبى لما بتنزل ومش عارفة هيحصل لك إيه. فكان رده بالسؤال الأول الذى بدأنا به، يومها انقبض قلبها ونهرته قائلة «إنت بتهزر يا أحمد، فيه حد بيحب النار؟ طبعا الجنة يا ابنى بس إنت ليه بتقول الكلام ده؟»، علمت الإجابة بعد ذلك بيومين تاليين، فتشت الأسرة عنه فى كل مكان، إلى أن انتهوا للرعاية المركزية بقسم جراحة 5 بقصر العينى. عشرة أيام افترشوا خلالها ممرات المستشفى ينتظرون رحمة الله، إما بالشفاء المستحيل طبيا وإما يقبض الله روحه شهيدا فيعفيه من مستقبل «عاجز على سرير».. كان هو وأحمد بدوى، هو زميله بالسرير المجاور له بالرعاية، كل منهما يصارع الموت حبا فى الحرية والحياة إلى درجة أن أسرتيهما كانتا تحسبان كم مرة توقف قلب كل منهما وعاد. سبقه بدوى إلى الجنة. يومها وقف عم صالح والد أحمد، أمام باب الثلاجة يواسى أهل بدوى وينظر إلينا بعين تسأل وهى يملؤها الخوف والأسى «هل ستأتون لمواساتى فى نفس المكان قريبا؟». الكل كان يتابع حالة أحمد ولا ييأس، هناك من يأتى بأستاذ جراح بالمخ والأعصاب، عله يفعل شيئا مستحيلا، هناك من يعرض نقله إلى دولة أوروبية. الكل يحاول وينتظر اليوم الصعب المشهود، حتى جاء فى تمام السادسة صباحا، ولم تمر أكثر من ساعتين انتشر خلالها علم مصر داخل أرجاء قصر العينى، ثم التف به أحمد، لتصاحبه مسيرتان لمصلحة الطب الشرعى، ومسيرة ثالثة لمسجد السيدة نفيسة لإتمام الصلاة على روحه.. وفى صباح أمس عزاء رمزى فى «عمر مكرم» ومسيرة رابعة تنطلق إلى مسجد خالد بن الوليد لتلقى العزاء مع أهله فى ميدان الكيت كات. مسيرة رابعة وخامسة تم الدعوة لها بهدف استمرار الغضب على زهق دماء الحرية.. مسيرات قد تختفى وقد تستمر.. لكن ما اتضح أنه رغم الخذلان الذى ظهر فى الميدان، لدرجة تفضيل فضه على بقائه مغلقا، فإن كلمة «شهيد» ما زالت هى القادرة على تأجيج روح كل هؤلاء الشباب الحر ولم جراحهم معا وليس من الغريب طبعا أن تجد وسط هتافاتهم وتكاتف أيديهم فى توديع شقيقهم «حقك نجيبه بإيدينا».