أتذكر الآن لحظة صعود عصام شرف إلى منصة ميدان التحرير... أتذكرها وهو يعود إلى بيته... لا أعرف بأى شعور.. ولا بأى نفسية بعدما تحول فى شهور قليلة من رجل تُعلَّق عليه الآمال إلى رجل تُلقَى عليه اللعنات. وهو فى كل الأحوال كان فى يوم اختياره رئيسا للحكومة بعد أحمد شفيق، مجرد رجل عادى عبر الميدان قبل إزاحة مبارك، وعاد إليه محمولا على أعناق جماهير لم تحمل أحدا منذ عبد الناصر تقريبا. الشعب كان يحتفل بانتصاره، لا فى إزاحة أحمد شفيق آخر رئيس حكومة عينه مبارك، ولكن فى تحطيم دائرة القيم المشبوهة التى يختار بها مساعديه: الشلة والانتماء والولاء، كسرت جماهير الثورة من جديد القانون بعد أن أزاحت صاحبه، إنه التصميم على إنهاء التركيبة: الرئيس وأعوانه وقيمه والدور التالى على أجهزة القهر والترويض. لم يعد الشعب يبحث عن بطل وزعيم وأب، الإلهام والكاريزما الآن تنتقل إلى الكتلة المدهشة، لا الصاعدين على الأعناق والمنصات. هذه الكتلة حطمت أقفاصها فى انتظار بطل مخلص، كشفت عن شوقها إلى قيم غائبة، هذا ما تأكد فى ميدان التحرير، نهار 4 مارس، حين رفعت الجماهير الغفيرة شخصا لم تعرفه من قبل، ويمثل بالنسبة إليها قيمة الشرف والنبل والاستغناء. قيم حوّلتها كتلة الثورة من مجال الأخلاق إلى السياسة فى حركة ذكية حين طلبت من عصام شرف أن يحلف اليمين فى الميدان. شرف، واسمه، توافق بالصدفة مع رغبات وأشواق أشخاص يتمتعون بصلابة أمام الحالة السائلة التى وضع مبارك البلد كلها تحت سطوتها. اكتشفت الثورة عصام شرف، ودفعت به ليحصل على شرعية من الميدان، ويعلن بشكل عملى ولادة قوة الشعب، لتجاور قوة الجيش، ولا تنتظرها. عصام شرف اكتشاف ضد اتجاه الحركة الذى أفرغ مصر من كوادرها، وأفقد البلد كلها أى صلابة ما... وضع البلد كلها فى الحالة “بين.. بين».. لا هى سيولة كاملة ولا مكان لصلابة ما. حالة غابت معها نوعية من أشخاص يستطيعون القيام بأدوار عامة. أشخاص يمكنهم أن يعبروا عما هو أبعد من حدود أجسادهم... فى الميدان يولد من جديد «مجال عام». هذا «المجال العام» يعنى فى البداية أن مصير وسياسات البلد ليست ملكا للحاكم... أو لنظام يحدد ما يراه باعتباره صاحب البلد أو مالكها الأبدى... فى المجال العام ينمو المجتمع المدنى كقوة موازية لقوة السلطة فى معادلة الحكم. الشعب كان يبحث فى شرف عن قيمة، لا عن بطل... لم يعد المصريون ينتظرون «فتوة عادلا»، لكنهم يريدون بلدا حقيقيا لا تموت فيه القيم تحت شهوة السلطة. وهذا ما صدم الناس فى عصام شرف، الذى بدا ضعيفا رغم أنه مدعوم بقوة المجتمع، وكسر الأقفاص التى وضعت فيها السلطة هذا المجتمع سنوات تلهو به وتحثه على الغناء، لكنه محبوس فى أقفاصها، ينتظر الماء والأكل، والتدليل طلبا لمزيد من الاستمتاع بمنظر شعب فى القفص. شرف لم يدرك اللحظة التاريخية التى دخل فيها مبنى الحكومة، وفى اللحظة التى أقسم فيها اليمين الدستورية، دخل فى دوامة «دولة العناية الفائقة». فى هذه الدولة يوهم المسؤول أنه مبعوث العناية، المنقذ، وجوده مهم فى حد ذاته، وهنا يقع تحت سيطرة من يدير قرص الدولة الفعال، وكلما فكر خارج النص المطلوب منه، يفاجأ بصوت يحاصره: البلد مش ناقصة. والحقيقة أن «البلد موش ناقصة فعلا... استبداد وأوهام» حول سقوطها إذا حدث تغيير كبير فى بنيتها.. وهذا ما لم يفهمه شرف الذى كان يغرق كل يوم فى الأوهام، ويبرر خضوعه للقبضة العسكرية بمصلحة الوطن أو بغيرها من حقن مخدرة تدارى العجز وعدم الكفاءة. الشرف وحده لا يكفى، والاستقالة من حكومة مبارك لا تمنح أحدا ميزة أو موهبة أو قدرات على حل أزمات المرحلة الانتقالية. شرف لم يكن سوبرمانًا، لكنه أيضا لم يكن سياسيا أو أمينا على آمال شعب كان يريد أن يرى المبادئ والقيم النبيلة فعالة فى الحياة. هذه حدود شرف أو قدراته.. لكن الثورة حدودها أوسع وقادرة على نقد ذاتها، لا صناعة أوهام حول رجل رفعته على منصاتها من عدم، كان من الممكن أن تدافع الثورة عن شرف إلى النهاية رغم فشله وضعفه، لكنها نادت بإبعاده رغم أنه «من الميدان». هذا هو الفرق بين التسلط.. والديمقراطية. التسلط يدافع عن «أهل الثقة» إلى النهاية والديمقراطية تبحث عن أهل الكفاءة إلى النهاية أيضا. وهنا يمكن أن نفهم لماذا أصر المجلس العسكرى على الجنزورى، ولماذا رفضت الثورة عصام شرف؟