الاختراع الذى وصل إليه المجلس العسكرى مؤخرا وهو إنشاء مجلس استشارى يضم مجموعات من الشخصيات، يتحاور معهم فى غرفه الواسعة وقاعاته المهيبة، للزعم بأنه يتواصل مع قوى الثورة والتيارات السياسية الفاعلة فى الشارع، يذكرنى بقصة لقاءات ومفاوضات اللواء عمر سليمان (نائب رئيس الجمهورية لأسبوعين اثنين) التى أجراها مع عدد من الشخصيات، تكاد تتكرر أسماؤهم مع ذات الأسماء التى يعلن عن اختيارها تباعا المجلس العسكرى أعضاء فى مجلس استشاراته. استراتيجية مفاوضات عمر سليمان هى كذلك شبيه، بل أخت توأم لمجلس استشاريى العسكرى، وهى كانت إجهاض الثورة وتفتيت القوى والالتفاف حول أهداف الثورة، والزعم بمشاركة أطرافها صناعة القرار. سأعود هنا إلى شهادة لأحد شباب الثورة، كنت قد استعنت بها فى كتابى عن ال18يوما التى أعادت مصر إلى مصريتها، وهو كتاب لم يكتمل حتى الآن، ربما لأن الثورة لم تكتمل حتى الآن أيضا. «كان عمر سليمان يشغل منصب مدير المخابرات العامة حتى أحداث ثورة 25 يناير، وبالتالى من المفترض أن تكون لديه معلومات كاملة حول العناصر الأساسية الحقيقية التى أسهمت وشاركت فى صنع الثورة المصرية، أى أنه يعرف من هم (الأفراد) الذين يتعين عليه الجلوس معهم لحل الأزمة، إلا أن النظام سارع على نفس الطريقة القديمة بعقد (لقاءات) تحت مسمى الحوار الوطنى.. طريقة تنظيمها والشخصيات والقوى التى اختارها النظام لتشاركه الحوار، أعطت رسائل للمجموعات الشبابية الأساسية بأنه لا توجد أى نيات حقيقية للحوار، وأن الأمر لا يتعدى ولا يتجوز كونه مجرد لقاءات إعلامية على طريقة لقاءات صفوت الشريف (التى كان يعقدها بين الحين والآخر مع قوى سياسية مجهولة وبعيدة كل البعد عن الحياة السياسية الحقيقية تحت نفس المسمى «الحوار الوطنى»).. وأن الهدف منها توصيل رسائل إلى جهات مختلفة، على رأسها العالم الخارجى.. بأن عليه أن يكف ويتوقف عن الضغوط، فالأزمة فى طريقها إلى الحل، ودليل ذلك (الحوار الوطنى).. ورسالة أخرى لطمأنة القوات المسلحة.. ورسالة للرأى العام بأن الدولة بدأت بالفعل فى الاستجابة لمطالب الشباب، وبالتالى لا داعى على الإطلاق للاستمرار فى تلك التظاهرات. فى أثناء المفاوضات لم يكن هناك كيان ممثل لشباب الثورة، والنظام استغل هذا، فروَّج لفكرة مع من نتحدث ومع من نتفاوض.. وأنه لا يوجد كيان ممثل للشباب، وأن على الشباب أن ينظموا أنفسهم فى كيان، علما بأن النظام يعرف المجموعات الشبابية الحقيقية التى لعبت دورا فى كل ما يحدث.. خصوصا.. أن أجهزة أمن يوم 25 يناير ذهبت إلى منازل عدد من الشباب.. كنت واحدا منهم.. إذن هم يعرفوننا.. فما معنى أن يقولوا.. لا نعلم مع من نتحدث فى الحقيقة، كنا نخشى من الإعلان عن أنفسنا فى شكل كيان ممثل لشباب الثورة.. فتتم محاربتنا.. ومواجهتنا بأسئلة من نوعية.. من أنتم؟ ومن نصبكم كمتحدثين عن المتظاهرين بالميدان؟ والنظام الذى كان يبحث عن ممثل للشباب هو من سيوجه هذه الأسئلة. إلا أن الضرورة هى التى جعلت المجموعات الشبابية التى نسقت مع بعضها بعضا قبل 25 يناير تعلن عن نفسها تحت اسم (ائتلاف شباب الثورة). بالفعل تكوّن (ائتلاف شباب الثورة)، وهو مكون من مجموعات شبابية لديها خبرة فى العمل المشترك والتنسيق فى ما بينهم، فجميعهم أبناء لحالة كفاية التى ولدت من رحمها حركات شبابية وأحزاب جديدة.. أبرز المشاركين.. (حركة العدالة والحرية، شباب حزب الجبهة الديمقراطية، شباب الإخوان المسلمين، حملة دعم البرادعى، حركة شباب 6 أبريل).. ورغم أن الائتلاف لم يكن يمثل الأفراد الموجودين فى ميدان التحرير.. فإنه أفضل من عبّر عن مطالبهم.. وأفضل من عرضها.. وأفضل من دافع عنها.. فاستحق تأييد المتظاهرين فى الميدان.. فبات وكأنه ممثل عنهم بالفعل. فالائتلاف لم يلهث وراء دعوات عمر سليمان ولا أحمد شفيق، بل استقر الائتلاف على عدم قبول التفاوض.. وأكد شعار (لا تفاوض قبل الرحيل)، إلا أن هناك مجموعات ذهبت إلى التفاوض.. وهى لا تملك شيئا تقدمه لا إلى اللواء عمر سليمان ولا إلى غيره، فذهابهم بالأساس تم بقرار فردى منهم دون الرجوع إلى أى من المجموعات الشبابية، استغلوها كفرصة للظهور الإعلامى لا أكثر ولا أقل.. وخرجوا وهم فرحين بهذا اللقاء مع السيد اللواء، وتحدثوا عن كيف أن هذا اللقاء أثلج صدورهم، وأنهم تحدثوا مع اللواء عن صعوبة دخول الأكل والأدوية إلى الميدان، فوعدهم بتسهيل عملية دخول الأدوية والوجبات.. علما بأننا كنا قادرين على ذلك طوال الوقت رغم الصعوبات.. وتحدثوا معه أيضا عن التضييق الإعلامى، فوعدهم بالظهور فى أكثر من قناة تليفزيوينة، منها قناة (دريم).. وبرنامج العاشرة مساء.. موضحين له أن هذه خطوة فى إطار توضيح الأمور للرأى العام، وطمأنته، وحتى لا ينفرد بالأمر الغوغائيون (يقصدون الأفراد المصرين على أنه لا تفاوض قبل الرحيل)، إذن ما الجديد الذى قدمتموه إلينا.. فقط مزيد من المكاسب التى حصل عليها النظام.. ومن ذهبوا إليهم.. ولأنها كانت مجرد مكاسب إعلامية وهمية سرعان ما تبددت، فخسر الاثنان، النظام ومن شاركوه حواره الوطنى». هذا نص شهادة من شاب لم تصل سنه إلى الثلاثين، لعلها درس لآخرين فى السبعين وأوشكوا على الثمانين، يجلسون فى هذا المجلس الاستشارى، ليكملوا رحلة عمر سليمان!