قادة المجلس العسكرى لا يتحدثون إلا عن «هيبة الدولة»، بينما الناس فى ميادين مصر يتحدثون عن «كرامة المواطن»، لغتان مختلفتان لا يوجد بينهما همزة وصل، فهيبة الدولة كما يرون لا تسمح لها بفضيلة الاعتذار مهما توقعه من جرائم، فالدولة المخولة وحدها بممارسة القوة تمارس ذلك عن طريق أجهزتها، الشرطة والجيش، لكنها قوة محكومة بالقانون، وعندما تخرج الدولة عنه تتحول هذه القوة إلى عنف غير مبرر، وتفقد شرعية وجودها، وهذا هو ما فعله المجلس العسكرى الآن، فقد استخدم جهاز الشرطة المريض الذى كان يحتمى خلفه مبارك، تقريبا بقياداته وأدوات قمعه نفسها، لم يدر أن الزمن قد تغير، وأن فعل العنف الذى كان عاديا أصبح الآن أمرا مخيفا وصادما، ومهما تحدثنا عن ضعف عصام شرف فقد هاله ما حدث، وأفزعته كمية الدم التى سالت على الأسفلت، لذلك أسرع باستقالته، لأنه أدرك أن كل هذه الجرائم سوف تنسب إليه، وستشوه وجهه إلى يوم الدين، خصوصا ذلك البيان المخزى الذى قام فيه بشكر رجال الشرطة على الجرائم التى ارتكبوها، فهو فى النهاية رجل مدنى مثلنا، متواضع النفس، لا يتمتع بدرجة الصلف والغطرسة التى يتمتع بها العسكريون، ولعلنا لاحظنا أنه فى خضم الأزمة، ودون مبالاة بدم الضحايا الذى كان ما زال ساخنا، ارتدى أعضاء المجلس العسكرى بزاتهم الرسمية، ووضعوا نياشين المعارك التى لم يخوضوها، وجلسوا أمام عدسات التصوير دون أن يقولوا شيئا سوى الأكاذيب، نحن لسنا طامعين فى السلطة، أكذوبة، لم نقتل أحدا، لأنه لا يوجد رصاص فى حوزة الشرطة، أكذوبة، قنابل الغاز عادية ومعترف بها وغير مؤذية، أكذوبة، هذه المذبحة هى الأخيرة، ولن تكون هناك مذابح أخرى، قمة الأكاذيب، أضف إلى ذلك العشرات من الأكاذيب الأخرى، وكلها مغفورة فى نظرهم، لأنها تدعم من هيبة السلطة الحاكمة. فى المقابل، يقف المواطن المصرى الذى أخطأ وخرج يدافع عن كرامته، فوجد آلة الموت فى انتظاره، لم يخرج من أجل الخبز رغم جوعه، ولا من أجل المال رغم إملاقه، خرج من أجل ذلك المعنى السامى الذى افتقده طويلا، إحساس الكرامة الذى تولد فى ميدان التحرير، وتعمد بالدم والبارود، والميدان لا يضم كل الشعب المصرى، كما يحلو لعشاق السلطة أن ينتقدوه، فلا يوجد ميدان يسع شعبا، ولكن التحرير يضم خلاصة الشعب المصرى بكل أطيافه، الطليعة القادرة على استشراف المستقبل والمطالبة بالتغيير، وقد أدركت هذه الطليعة بشكل عفوى أن أمامها ثلاث مهام محددة، أهمها تعريف الناس بالظلم الواقع عليها، فبدون هذا الوعى يمكن للناس أن يتحملوا صنوفا من المهانة يمكن أن تفقدهم إنسانيتهم، وثانى المهام هى تعريف الناس بأولئك الذين يقومون بظلمهم، فمن الضرورى أن تعرف عدوك سواء كان رئيسا أو جنرالا أو مسؤولا، وآخر المهام هى تعليم الناس كيف يمكنهم مواجهة هذا الظلم، الأدبيات الأولى للحرية التى تعلم المصريون تهجئة حروفها مع الثورة، ومن المستحيل أن ينسوا الدرس، فعندما تم الاعتداء على مجموعة من مصابى الثورة من قبل قوات النظام بغطرستها المعهودة، لم يدركوا أن هناك متغيرا جديدا طرأ على الذات المصرية، لقد جعل إحساس جموع المواطنين بالكرامة يهبون معترضين على المذبحة، لم يتوافد الآلاف منهم على ميدان التحرير فقط، ولكن إلى كل ميادين مصر، لم يكتفوا بالهتاف والصياح ولكن نفرا منهم توجه إلى مديريات الأمن، مقر الجهاز المسعور الذى لا يريد أن يتغير، وأيضا إلى المناطق العسكرية، لأن أيدى الشرطة العسكرية قد أصبحت هى أيضا ملطخة بالدماء، وأصبحت سجونها مليئة بالمظلومين، وهكذا يرفع المصريون لغتهم الجديدة فى وجه تسلط المجلس العسكرى، لغة فى مقابل لغة، وتحد فى مقابل عناد، وشباب فى مقابل شيوخ، جيل بازغ يصعد فى مواجهة جيل غارب، والمستقبل غالب على أمره مهما كانت شراسة الكهول. الازدواجية كانت فى الميادين أيضا، فى التحرير كانت صلاة الجمعة مشهدا مهيبا، يتوجه الآلاف للسماء بالدعاء، شيوخا ومسنين ومصابين، أعضاؤهم مبتورة، العديد منهم كانوا يبكون تأثرا وهم يدعون الله من أجل خلاص وطنهم من كل الشرور التى تحيق بهم، وجوه مظلومة، ونفوس منكسرة، قتل إخوتهم وأصيب رفاقهم، دون أن يظفروا بحكم عادل، لا شىء يهدئ من نفوسهم المكلومة، لم يعد أمامهم إلا أن يقفوا هكذا كتفا لكتف تحت رحمة الخالق الأعظم، فى نفس لحظة الصلاة كان ميدان العباسية يتراقص فرحا، وهم يرفعون الرايات، لم يتوجه الموجودون فيه للسماء، لم يكونوا بحاجة إلى ذلك، كانوا يتوجهون بحماس إلى صورة ضخمة منتصبة فى عرض الميدان، تحمل صورة لقادة المجلس العسكرى فى «بوزات» مختلفة ومكتوب تحتها «حماة الوطن»، هل كان المتظاهرون يحتمون بهم؟ هل كانوا يبتهلون إليهم، لا أحد يعلم؟ ولكن من المؤكد أنهم كانوا ينتمون إلى عالم آخر ليس فيه مواطنون أهدرت كرامتهم، ولا شهداء ضاعت دماؤهم، ولا مصابون فقدوا مستقبلهم ولا مسجونون بقضايا ملفقة، لم يهتز أحد أمام أعدادهم الكبيرة بعض الشىء، فالسلطة قادرة دوما على حشد الأعداد الغفيرة، مبارك حشد ميدان مصطفى محمود قبل أن يسقط، وعلى عبد الله صالح فعلها مرارا قبل أن يرحل، وما زال بشار الأسد يفعلها بنجاح، ولكن هذا لا ينفى أن الثلاثة كانوا سفاحين، ومهما كان اتساع الحشد فى ميدان العباسية فلن يغسل هذا أيدى المجلس العسكرى من الدماء التى تلوثها. لن أنسى أبدا شهادة الكرامة الضائعة التى أدلت بها منى الطحاوى الصحفية المصرية الأمريكية، لم أقابلها يوما، ولكنى أذكر أنه فى الأيام الأولى لثورة يناير كان التليفزيون الكندى قد عقد مائدة مستديرة تضم عددا من الخبراء فى شؤون الشرق الأوسط، كلهم أجمعوا أن مصير مصر محتوم، فهى دولة من العالم الثالث، عاشت طوال عمرها تحت حكم العسكر، وستنهى بها هذه الثورة أيضا إلى قبضة عسكر أكثر تشددا، ولكن صوت منى الطحاوى جاء من الولاياتالمتحدة معترضا على هذه الرؤية المتشائمة، تحدثت عن إحساس المصريين بكرامتهم المستردة، وكيف سيمنعهم هذا من الوقوع فى قبضة العسكر مرة أخرى، لم تكن الثورة قد انتصرت بعد، ولكن صوتها كان بارقة أمل، نقطة ضوء وسط ظلام التشاؤم، لقد عادت منى إلى القاهرة لتشهد الموجة الثانية من ثورتها ضد العسكر، وكان حظها سيئا لأنها تعرضت لاعتداء وحشى من رجال الأمن المركزى، لم يكسروا فقط ذراعيها، ولكنهم لم يتركوا جزءا من جسدها إلا وتحسسوه، ووجهت إليها تهمة التجسس، وفى النهاية اضطروا للإفراج وهى فى حالة يرثى لها، لقد فقدت الفتاة التى دافعت عن كرامة مصر كرامتها فى وطنها، وقعت ضحية لبطش الدولة التى لا تريد أن تتغير، ربما كان الذى أبقى على حياتها هو امتلاكها لجواز سفر أمريكى، وهو ما يحدث للمصريين دون أن يوجد من ينقذهم إلا عدالة السماء، هذه هى معركة الكرامة التى يخوضها المصريون الآن، وهى أشد صعوبة من معركة 25 يناير، لأن الحامى أصبح عدوا، ولن يحمى ظهر الثوار العارى إلا المزيد من كثافة الشعب المصرى فى الميدان حتى يمنع كرامته من أن تهدر من جديد.