ليست مصادفة أن أول من سارع إلى إدانة عنف الشرطة البريطانية هم المستبدون الثلاثة، النظام الإيرانى، والنظام السورى، والعقيد الليبى معمر القذافى. فهؤلاء من مصلحتهم أن يوحوا للناس بأن مظاهرات لندن وبرمنجهام صورة أخرى من مظاهرات حماة ودرعا. المستبدون الثلاثة يريدون أن يبرروا قمعهم المظاهرات السلمية، وقمعهم المعارضة، بما يحدث فى بريطانيا. أما نحن فليس فى صالحنا أبدا أن نقرن بين ثورة الشعب المصرى وما يحدث فى بريطانيا، ولا أن نوحى بأننا ألهمناهم. انتبهوا، ليس كل من خرج إلى الشوارع ضد حكومته ثائرا. ينبغى أن نفرق تماما بين الاحتجاج السلمى على حكومة منتخبة والثورة ضد نظام استبدادى، وبين التظاهر السلمى احتجاجا على سياسة حكومة منتخبة وتخريب المنشآت، وإحراق السيارات، والاعتداء على ممتلكات الناس وسلامتهم. أقول هذا إيمانا منى بأهمية أن نحدد لأنفسنا المسار السياسى الذى نريده لمستقبلنا، أن نميز بين الصالح والطالح فى ممارسة السياسة. قل عن سياسات الحكومة الائتلافية فى بريطانيا ما شئت. بالنسبة إلى كاتب هذا المقال هى حكومة قدمت إيمانها الأيديولوجى بأهمية القطاع الخاص وبأهمية تقليص عجز الميزانية وتقليص دور الدولة، قدمت هذا على البراجماتية السياسية التى كانت تقتضى إدراك الأبعاد الاجتماعية لهذه السياسة فى وقت أزمة اقتصادية عميقة، كالتى تعيشها بريطانيا حاليا. وأعتقد أنها أخطأت خطأ جسيما بعدم توسيع المدى الزمنى لخطة تقليص النفقات، مما جعل الفقراء يدفعون الثمن الأكبر لإجراءات التقشف. هذه معارضة سياسية، لكن التخريب ونشر الفوضى يهدم أسس الديمقراطية. لا تتعجبوا من حجم التأييد الكبير الذى تحظى به الحكومة البريطانية حاليا فى أوساط الشعب البريطانى. لا تقرنوا بين هذا وحزب الكنبة أو «إحنا آسفين يا ريس». كاميرون لم يحصل إلا على ثلث أصوات الناخبين فى بريطانيا، ويقود حكومة ائتلافية، وربما يكون معظم الذين يؤيدونه حاليا من معارضيه ومعارضى سياسته، وقد يقصونه فى الانتخابات القادمة. هؤلاء يؤيدونه من باب تأييد أسس المجتمع السلمى الديمقراطى الذى ينبذ تماما فرض الرأى بالقوة. ستجدون أن المعارضة البريطانية -حزب العمال- التى لا تفوت فرصة لمهاجمة ديفيد كاميرون هى أول من سيؤيده فى تصديه للمخربين. تلك مصلحة سامية للدولة، تعلو على أى انتهازية سياسية. بالعكس، مطلبهم الأساسى فى الوقت الحالى هو أن يتراجع عن قراره بتخفيض نفقات الشرطة، أى أن المعارضة تريد منه ضخ مزيد من قوات الشرطة فى الشوارع لحماية المنشآت. لا تنس أيضا أن العدد الأكبر من القتلى -ثلاثة فى يوم واحد- قتلوا على يد مثيرى الشغب بينما كانوا يدافعون عن بيوتهم ومصالحهم. الخطوة الإيرانية بإدانة استخدام الشرطة البريطانية «العنف المفرط» مع المتظاهرين مجرد استغباء للرأى العام. رئيس الوزراء البريطانى لم يعط تصريحا باستخدام خراطيم المياه إلا بعد يومين من بدء أعمال الشغب، أعلن ذلك فى مجلس العموم لا من خلال أوامر «على التليفون» تتوِّه المسؤولية السياسية، وفى اليوم التالى سمح باستخدام نوع معين من الأسلحة وبقواعد اشتباك معينة، بشفافية سياسية تامة، ومسؤولية سياسية واضحة. اقترن هذا بإعطاء سلطة إضافية للشرطة تسمح لهم بمنع استخدام المتظاهرين لأقنعة الوجه (أى والله)، وذلك لتصوير مثيرى الشغب، تمهيدا لمحاكمتهم محاكمة مدنية عادلة. لا ينبغى أن نخلط بين الأمور، لأننا نبنى حاليا صورتنا الذهنية عن مستقبل مصر. وفى مصر الديمقراطية التى تسمح للإنسان بالتعبير السلمى عن رأيه سنكون أنا وأنت أول حائط صد ضد المخربين، لأنهم يخربون نظامنا الديمقراطى قبل أن يخربوا المنشآت، ولأنهم يسقطون حق المواطن المسالم فى الاختيار قبل أن يسقطوا الحكومة. مضطر إلى الإعادة: ليس هذا دفاعا عن سياسة الحكومة البريطانية الاقتصادية والاجتماعية، فلستُ مؤيدا لها، إنما دفاع عن قيم المجتمع الديمقراطى.