للحيلولة دون تجدد أحداث الشغب في بلاده يلفت الانتباه في أحداث الشغب التي شهدتها عدة مدن بريطانية اعتبارا من 6 أغسطس ولمدة أسبوع تقريبا أنها كانت أحداثا همجية بامتياز، وقد وصل عدد المشتبه بهم في هذه الأحداث إلي أكثر من ثلاثة آلاف شخص، وأسفرت عن مقتل خمسة أشخاص . وكما أظهرتها لنا وسائل الإعلام البريطانية والعالمية، فقد تضمنت المشاهد اعتداءات علي مصوري تليفزيون هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي )، واعتداءات علي الشرطة وسياراتها، ومبان ومحال تجارية وسيارات تحترق، وأعمدة الدخان الكثيف تتصاعد عبر الطرق، ومشاغبين في مقتبل العمر يقومون بسرقة المصابين، وسيارات تدهس مواطنين، فيما لم يجد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي قطع إجازته التي كان يقضيها في إيطاليا، من وصف للأحداث غير تأكيده بأن ما يجري في بلاده ما هو إلا " إجرام صرف " ويتحتم مواجهته ودحره . علي أن أطرافا أخري كانت تراقب المشهد البريطاني، وأرجعت الأحداث إلي أسباب أخري مغايرة تماما . فزعماء بعض الطوائف علي سبيل المثال وجدوا تفسير أعمال العنف يكمن في الفوارق المتزايدة في الثروات، والفرص المتاحة في المدن التي يسكنها مزيج من الأعراق المختلفة . هذا، بينما شجبت المعارضة البريطانية أعمال العنف مؤكدة أن سببها الرئيسي يعود إلي " الاستقطاعات " غير المسبوقة في الميزانية البريطانية التي قررتها الحكومة، مما أثار استياءً بالغا لدي شرائح المهمشين في المجتمع البريطاني . وفي غمار الأحداث، وجه البعض اتهامات إلي وسائل الإعلام البريطانية بأنها تحاول تصوير المشهد علي أن أصحاب البشرة السوداء هم المتسببون في العنف، بينما كانت الأحداث تجري علي الأرض بمشاركة بيض وسود، وطبقات مختلفة، وفقراء وأغنياء، في خضم حالة استثنائية، يعيشها المجتمع البريطاني بصورة لم يشهدها منذ عقود . كانت أحداث العنف قد بدأت مساء السبت 6 / 8 في منطقة توتنهام شمال العاصمة البريطانية لندن التي يسكنها 8.7 مليون نسمة، بسبب مقتل شاب بريطاني برصاص الشرطة، وبدأت الاحتجاجات سلمية ضد الشرطة،ثم تحولت إلي أسوأ موجة من العنف تشهدها بريطانيا منذ عقود، وواكب الأحداث غضب مجتمعي عارم دفع الخبراء والباحثون إلي البحث في الأسباب الحقيقية لما شهدته لندن ومانشستر وليفربول وتوتنهام ومدن بريطانية أخري من أحداث استثنائية، وعلقت صحيفة " فاينانشيال تايمز " بأن الأحداث مثلت إذلالا لمدينة لندن، ولطخت سمعة بريطانيا ( المستقرة ) قبل عام من استضافتها دورة الألعاب الأوليمبية " . وبينما هدأت نسبيا الأحداث في بريطانيا، فثمة مخاوف من تكرار السيناريو في برلين، حيث تشهد شوارعها شبابا غاضبين يقومون بحرق " السيارات الفارهة " لندن .. مفارقات المشهد لاتزال بريطانيا تترنح من جراء " الصدمة والغضب " اللذين نجما عن مشاهد العنف التي فاجأت الجميع، حيث بدأت أجرأ موجة من المراجعات والمساءلة المتبادلة بين عدة أطراف معنية بالأزمة مباشرة، وفي هذا السياق، بدت عدة مفارقات نتيجة الجدل المجتمعي الذي واكب الأحداث وتداعياتها علي النحو التالي : أولا .. المفارقة الأولي تمثلت في الاتهامات المتبادلة التي انطلقت بين السياسيين البريطانيين من ناحية، والشرطة البريطانية من ناحية أخري . فالسياسيون اتهموا الشرطة بالعجز والقصور وعدم الجهوزية لمواجهة أحداث للشغب علي هذا النحو ، وبالتالي عدم القدرة علي توفير الحماية اللازمة للمواطنين والمجتمع، ما وصف بأنه " نقطة ضعف خطيرة " في جهاز الشرطة البريطاني بما يمس أمن الناس وحياتهم . وقامت الشرطة بدورها بتوجيه اتهامات للسياسيين بالارتباك والتأخر عن ملاحقة الأحداث ( حيث كان رئيس الوزراء وعدد من وزرائه في عطلة، تأخروا في قطعها إلي مراحل متأخرة من اندلاع أحداث العنف )، ووصف السير هاج أوردو رئيس جمعية قيادات الشرطة دور السياسيين في الأزمة بأنه " لم يكن مناسبا "، وأن عدة قرارات اضطرت الشرطة إلي أخذها مباشرة، وأن عودة السياسيين لم تغير شيئا . ثانيا .. تمثلت المفارقة الثانية في أن الأزمة البريطانية أظهرت حقائق كانت غائبة عن المؤسسة السياسية بشأن قدرات وإمكانيات أجهزة الأمن والشرطة، ومستوي أدائها تجاه الأحداث، فلم يتصور أحد في داخل بريطانيا أوخارجها أن الشرطة البريطانية ليس لديها " مدافع الماء " اللازمة لمواجهة أعمال الشغب، وفي ذلك يقول كن ليفنجستون ان مدافع الماء استخدمت في أيرلندا الشمالية، ولكنها لم تستخدم من قبل علي التراب البريطاني، وعلقت صحيفة لوموند الفرنسية متساءلة كيف أن بريطانيا العظمي ليس لديها مدفع واحد للمياه . غير أن صورة وأحداث الشغب في بريطانيا وجهت الاهتمام إلي قضية أخري تتعلق ب " أزمة الثقة " بين البريطانيين والشرطة، واتجاهات المواطنين نحو أجهزة الأمن في بلادهم ، مما كان له أكبر الأثر في امتداد أحداث العنف إلي عدة مدن بريطانية منها برمنجهام وبريستول وليفربول . ويبدو أن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يحاول حاليا تدارك الموقف (بطريقته ) ، حيث قرر الاستعانة بالمستشار الأمريكي بيل براتون الاختصاصي في مجال مقاومة الإجرام، للاستفادة بخبرته في التصدي للعناصر المشاغبة . وكانت من توصيات الخبير الأمريكي ضرورة أن تحرص الشرطة علي نشر الخوف والرهبة بين المجرمين خاصة الشباب، وأن تتاح للشرطة امكانية استخدام الرصاص المطاطي وخراطيم المياه لشل الحركة أثناء الاضطرابات، غير أن هذا النهج لم يتفق معه مسئولو الشرطة البريطانية الذين يرون أن العنف في بلادهم يختلف عن عنف " عصابات أمريكا "، وأن طريقة براتون لم تنجح كليا مع استمرار 400 عصابة في العمل الإجرامي . يذكر أن رئيس الشرطة في لندن بول ستيفنسون استقال بسبب فضيحة ( التنصت في امبراطورية ميردوخ الصحفية ) في الشهر الماضي، وكانت الشرطة بلا قيادة عند اندلاع الأحداث . ثالثا .. ونأتي للمفارقة الثالثة في أحداث العنف والشغب في بريطانيا وهو ما يتعلق بالجدل والخلافات التي نشبت بين أطراف سياسية وإعلامية حول توصيف الأحداث وتسمية المشاركين فيها . فعندما استخدمت هيئة الإذاعة البريطانية كلمة " المحتجين " كوصف لمثيري أعمال الشغب، فقد واجهت انتقادات من جانب حملة شنها معارضون علي موقع تويتر بدعوي أن كلمة " محتجين " تمنحهم الشرعية وكأن لديهم ما يحتجون عليه، مما دفع الإذاعة إلي وقف هذه التسمية، وجاء ذلك بينما يردد البعض وصف " المجرمين " أو " الإرهابيين " و " مثيري الشغب " وأصر البعض علي استخدام كلمة " الانتهازيين والهوليغنز "، واستخدمت جهات رسمية كلمة " البلطجية " و " العصابات الإجرامية " . رابعا .. ورابع مفارقة لها صلة بأحداث الشغب تتصل بالمشاركين في هذه الأحداث، فلم يكونوا من طبقة واحدة، ولم يعبروا عن لون سياسي معين، وكانوا خليطا من الرجال والنساء والشباب، ويعمل بعضهم في وظائف جيدة، وكان منهم من يعمل في الفن، أو مساعد لطبيب، أو سائق لرافعة، ومدرس،وإعلامي، وعامل، ومصمم جرافيك، ومنهم من يسكن في شقة قيمتها 500 ألف دولار، ومنهم من ينتمي للطبقة المتوسطة، ومنهم أثرياء، وحسب التحقيقات المبدئية أثيرت تساؤلات عن سبب مشاركة هذه العناصر في الفوضي التي عادة ما يقوم بها عناصر الطبقة الدنيا من الشباب المغتربين، والعاطلين، ومن تنسد أمامهم فرص الحياة، ومع ذلك، فلم تخف الصلة بين أحداث العنف والشغب والسلب والنهب التي تخللتها وكون بعض ممن شملتهم التحقيقات ممن ينتمون للجذور الاجتماعية لفئات تعاني الكثير من الحرمان واليأس الاجتماعي والاقتصادي . خامسا .. ثم نأتي للمفارقة التي تمثلت في حملة الشرطة البريطانية ضد شبكات التواصل الاجتماعي الفيس بوك وتويتر وبلاك بيري، بدعوي ان المشاركين فيها يرسلون رسائل التحريض علي أعمال الشغب عبر هذه الوسائل، الأمر الذي دفع دوائر ومستخدمين عرب لهذه الشبكات للتساؤل : أين حقوق الإنسان وحق التعبير في بريطانيا ؟ ولماذا لم تشن الولاياتالمتحدة انتقادات لقمع بريطانيا للحريات ؟ في إشارة إلي النماذج العربية التي قامت بقطع الاتصالات أثناء ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وسوريا والامارات واليمن وليبيا، وأكد مصدر حكومي في بريطانيا أنه يبحث إمكانية تعطيل شبكات التواصل الاجتماعي وخدمات الرسائل مستقبلا خلال أوقات الاضطرابات . سادسا .. وأخيرا يلفت الانتباه في أحداث الشغب في بريطانيا أن معظم البريطانيين غضبوا من حالة الفوضي، وطالبوا الحكومة برد صارم عليها لدرجة أن 71 % طالبوا كاميرون بالاستعانة بالجيش ضد الفوضي، ونادت الأغلبية بفرض حظر التجول في مناطق الشغب، وثلث الناخبين البريطانيين أيدوا استخدام " الذخيرة الحية " ضد المشاغبين . خلافات سياسية بكل المقاييس، مثلت أحداث الشغب والعنف وسرقة ونهب الممتلكات التي شهدتها عدة مدن بريطانية " مفاجأة " من العيار الثقيل أدت إلي هزة عنيفة في المجتمع، مما أسفر عن حالة خلافية حادة طالت جميع الأطراف بلا استثناء . بينما أدانت المعارضة السياسية في بريطانيا بشدة أعمال العنف في لندن والمدن البريطانية الأخري، فإنها رأت أن الاستقطاعات غير المسبوقة في الميزانية التي قررتها الحكومة هي السبب الرئيسي في إثارة الاستياء بين شرائح مهمشة من المواطنين، غير أن حكومة كاميرون رفضت هذا التفسير، وشددت علي أن " خطة التقشف " التي قررتها لمعالجة العجز الهائل في الميزانية حتي عام 2015 وضعت بريطانيا في مأمن من الأزمة المالية . ومن المعروف أنه وفقا لخطة التقشف الاقتصادي تم إغلاق النوادي الرياضية ومراكز الرعاية الاجتماعية التي تساعد الأسر علي تربية أولادها في مناخ صحي اجتماعيا . كذلك زادت أعباء الأسر، وعانت المدارس نقص المدرسين الأكفاء . وذكرت نائبة عمالية أن بلدية توتنهام التي انطلقت منها أعمال العنف شهدت اقتطاعا في ميزانيتها الفقيرة أصلا بنحو 41 مليون جنيه ( 66 مليون دولار ) مما أدي إلي تراجع بنسبة 75 % في الأموال المخصصة للخدمات الموجهة للشباب، وقطع المنح التي كانت توزع علي آلاف الطلبة . وعموما، اعتبرت ميزانيات الهيئات المحلية هي الأكثر تضررا جراء خطة التقشف مع تراجع الأموال المخصصة لها بنسبة 27% خلال أربع سنوات، مما ينعكس بصورة فورية علي جمعيات مساعدة الفقراء والهيئات الثقافية المحلية . وهناك من يؤكد أنه منذ وصول الائتلاف الحكومي إلي السلطة فإن بريطانيا لا تبدو مستقرة، وشهدت احتجاجات محدودة ضد التقليصات في الميزانية، وكان علي الحكومة أن تدرك حجم المقامرة التي تقدم عليها، وتقول الكاتبة نينا بور في الجارديان " إن السياسات الحكومية التي شهدها العام الماضي جسمت الشرخ بين ذوي الامتيازات والمعدمين، ومع ذلك، فإن حالة التململ الاجتماعي لها جذور أعمق من ذلك " . زيادة علي ذلك، فقد طالت خطة التقشف أجهزة الأمن، مما يهدد بنقص شديد في مواردها ما بين 20 24 %، وهو ما يأتي علي حساب أعباء الأمن الداخلي خاصة مع إصرار الحكومة علي تقليل أعداد قوات الشرطة، واقتصر الإنفاق علي مهمات الحماية من الإرهاب القادم من الخارج، ومحاربة الإرهاب، وبدا واضحا منذ الأيام الأولي لأعمال الشغب أن أجهزة الأمن تعاني نقصاً في الإمكانيات والتجهيزات، وأدي ذلك إلي خلافات بين مسئولين حكوميين ومسئولين في الشرطة علي خلفية اتهامات متبادلة بسوء الإدارة . تمثلت المشكلة الرئيسية في عدم الوصول إلي أي درجة من " التوافق " حول الأسباب الحقيقية لاندلاع موجة العنف والشغب في المدن البريطانية، فالحكومة البريطانية ورئيس الوزراء تصر علي وصف الأحداث بأنها من قبيل " الإجرام " البحت، ويؤكد كاميرون أن ما حدث لا صلة له بالسياسة، وإنما هو " سرقة وأعمال نهب وإحراق متعمد "، بينما يري معلقون ورموز في المجتمع أن للأمر صلة بمشكلات الفقر والبطالة والتهميش المنتشر بين الشباب، ويقول زعيم المعارضة ايد ميليباند " لابد من تجنب الأجوبة المبسطة عن الأحداث " ويتساءل : هل ماجري له أبعاد ثقافية ؟ أم هو مرتبط بالفقر ؟، أو بغياب الآفاق ؟ أم بكل ذلك علي الأرجح ؟ وفي ضوء جدل مجتمعي واسع النطاق، يصر رئيس الوزراء علي النظرة إلي ما وقع علي أنه " شغل عصابات إجرامية "، ويصر علي حرمان الأشخاص المشاركين فيها من المساكن الاجتماعية المخصصة لذوي الدخل المحدود كعقاب لهم، وقد أثارت هذه النظرة من جانب كاميرون انتقادات من جانب باحثين وخبراء يرون ضرورة معالجة الأمر بصورة اكثر شمولية وعمقا بالنظر إلي ما يشهده المجتمع البريطاني من ظواهر تستحق البحث . في غضون ذلك، أظهر استطلاع للرأي أن أكثر من نصف البريطانيين يعتقدون أن رئيس الوزراء كاميرون فشل في إظهار قيادته في وقت مبكر بشكل كاف للسيطرة علي أعمال الشغب . واتفقت نتائج الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة كومباس لصالح الاندبندنت واستطلاع اي سي ام لصالح جارديان، وجاء فيها رفض 44 % أن كاميرون عالج الموقف بشكل جيد، وقال 54 % إن كاميرون تأخر في قطع إجازته والعودة لقيادة الموقف، وقال نصف من شملهم الاستطلاع انهم لا يثقون في قدرة لندن علي تأمين دورة الألعاب الأوليمبية التي من المقرر أن تقام في بريطانيا في العام القادم . كانت المحصلة أن بريطانيا تواجه فاتورة تصل إلي مليار استرليني أي ما يعادل 6 . 1 مليار دولار ثمنا لخمس ليال من أعمال الشغب والنهب، وسوف يستغرق تسديدها سنوات مقبلة، وقد ضاع تأثير " دفعة الانتعاش " التي قدمتها حفلة زفاف الأمير وليام للاقتصاد البريطاني، فقد دمرت آلاف الشركات، وتأثرت سمعة السياحة، ويواجه أصحاب المحال الصغيرة فاتورة خسائر بنحو 200 مليون استرليني، كما تشمل الفاتورة تكاليف عمليات الإصلاح، في وقت حرج بالنسبة للاقتصاد البريطاني الذي لم يحقق نموا يذكر علي مدي الأشهر التسعة الماضية، وقد أكد اقتصاديون أن معدل النمو يبلغ 3.1 في 2011، ويصل إلي 2 % فقط في 2012 . أمراض المجتمع السؤال الصعب الذي ينطلق اليوم في البيوت وبين الأسر في بريطانيا، وفي دوائر سياسية واجتماعية، وأيضا في عيادات الصحة النفسية هو : هل حقا كان مقتل مارك دوغان برصاص الشرطة هو السبب الحقيقي وراء اندلاع العنف ؟، أم أن هذا الحدث كان العصا السحرية التي كشفت الغطاء عن أمراض المجتمع البريطاني ؟ وفي قلب هذا السؤال ينطلق سيل من القضايا الحرجة، فلماذا تحول مواطنون عاديون، كانوا يحترمون القانون والنظام، ويحرصون علي رضا وأمن المجتمع، إلي سارقين وناهبين يقفون حاليا أمام المحاكم ؟ ويقول رافي سومايا في نيويورك تايمز " إن هذا السؤال هو اليوم لب النقاش الوطني المحزن في بريطانيا، في وقت تنتاب فيه الجميع حالة من الذهول عن الدوافع التي تجعل مواطنين ملتزمين بالقانون يتحولون إلي ناهبين يمارسون السرقة، ربما لمجرد الاستيلاء علي زجاجة مياه ؟ " . هنا نجد أن نطاق التحليلات في المجتمع البريطاني والتي انطلقت بمناسبة الأحداث تتسع لتمتد إلي بحث الأسباب الناجمة عن عدم المساواة في الدخول، والتخفيضات الهائلة في الانفاق والرفاهية الاجتماعية، وانعدام الثقة في الشرطة في المناطق الفقيرة . غير أن انتقادات أخري أكثر عمقا توجه إلي المجتمع الحديث بوجه عام،وهي ممثلة في أثر ما يسمي ب " ثقافة الجشع والإفلات من العقاب " سواء في الحكومة أو الشركات . وفي هذا السياق حذرت منظمة " البوصلة " المعنية بقضايا التغيير والإصلاح السياسي من أخطر ظاهرة يمكن أن تواجه المجتمعات الحديثة وهي حينما يري الشباب الفساد منتشرا بين السياسيين والإعلاميين والاقتصاديين والبرلمانيين وحتي بين رجال الشرطة ورجال البنوك والشركات، بدون أي حساب أو عقاب أو مساءلة . ومن هنا جاءت التساؤلات : كيف أن شبابا بريطانيين، منهم طالب الهندسة، وخريجة جامعية، وموظفة رياضية يقفون للفرجة علي أعمال السرقة، ثم يقدمون علي المشاركة فيها ؟ ويقول كليفورد ستوت أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة ليفربول إن ديناميكيات الجمهور معقدة إلي حد كبير، وعندما يقف البعض ليتفرجوا ثم يجدوا أنفسهم متضررين من الشرطة، وعمليات القمع الواسعة، فإنهم يعتقدون أن الشرطة هي المخطئة، وليس مثيرو الشغب، لذلك نراهم يشاركون في السرقة . ويقول عالم النفس لانس وركمان إن مشاهدة الناهبين وهم يخرجون من المتاجر محملين بالغنائم، من دون ممانعة، هو في حد ذاته يدفع آخرين لارتكاب نفس الفعل . ويركز وركمان علي عنصر " الحقد الاجتماعي " علي الأغنياء، حيث يشعر الفرد ساعتها أن لديه " منظومة قيم مؤقتة " تبرر له ما يفعل . وقد يفسر الأمر بصورة أعمق ما أشارت إليه صحيفة " الديلي تليجراف " التي صدرت بعنوان كبير هو " مجتمعنا مريض " وشرحته الكاتبة أندرو جيليغان قائلة " كانوا يقولون لنا إنهم من الطبقة الفقيرة، ثم اكتشفنا في المحاكم أنهم غير ذلك، إنه المرض الذي ينخر في المجتمع البريطاني "، في إشارة إلي مساوئ عامة، منها ما يتعلق بالجانب الاقتصادي وخطة التقشف ، وعوامل أخري تتعلق بجوانب مجتمعية وتربوية . وبوجه عام، يؤكد علماء النفس أن العوامل الاقتصادية تلعب دورا مهما في معادلات العنف في المجتمع، ويعزي ذلك إلي طبيعة الأسواق وطبيعة الشباب في العصر الحالي، خاصة بالنسبة للأجهزة والأدوات الجذابة بالنسبة للشباب، إذا كانوا محرومين منها (الهواتف، واللاب توب، والتليفزيونات الحديثة) ويقول الدكتور" بيتس إلي " إن " النهب " موقف اجتماعي معقد وصعب، ويصعب تصنيفه في خانة الجريمة المباشرة مثل " البلطجة " ، بل ينبغي النظر إلي النهب في إطار أوسع من " الغضب الاجتماعي المتصاعد " خاصة بين الشباب في حالات البطالة، وتفاوت فرص التعليم بين الفقراء والأغنياء، والتفاوت في مستويات الدخل . ويؤكد بيتس أن النهب يجعل الأفراد العاجزين اجتماعيا يشعرون فجأة " بقوة طاغية " وهو ما يمنحهم احساسا بالنشوة العارمة . وفي مثل هذه الحالة تصبح الأوضاع الاجتماعية مقلوبة، ويشعر الصغار بأنهم يستطيعون فعل ما يحلو لهم، ولا يملك الكبار معاقبتهم . تؤكد صحيفة الاندبندنت أنه في منطقة توتنهام التي اندلعت منها شرارة الأحداث الاحتجاجية توجد رابع أعلي نسبة للأطفال الفقراء في لندن، كما أن نسبة البطالة تبلغ 8.8% أي ضعف المعدل في البلد، وتؤكد كاتبة بريطانية ضرورة النظرة الشاملة للأحداث خاصة أن 10 % من سكان البلاد أغني 100 مرة من فقرائها . مخاطر مرتقبة تحذر دوائر بريطانية أن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء قد لا يحتفظ بمنصبه إذا ما أصر علي تطبيق خطة الحكومة للتقشف وتخفيض الإنفاق . ويستخدم كاميرون خطابا صارما في مواجهة من يعتبرهم " مجرمين " نظرا إلي أن حزب المحافظين معروف بتشدده في قضايا القانون والنظام، ولحسن الحظ بالنسبة لكاميرون أن الانتخابات لن تجري قبل عام 2015، وهي فرصة طويلة لتحسن الأمور والتقاط الأنفاس، خاصة أن حزب المحافظين كان قد أغضب مؤيديه التقليديين من اليمينيين بالدخول في ائتلاف مع حزب الأحرار الديمقراطيين ذي الاتجاه اليساري في العام الماضي . وعلي العموم ، فإن مستقبل كاميرون السياسي يحدده مدي نجاحه في ضبط المجتمع البريطاني في المستقبل القريب . ويقول الكاتب أدريان كروفت إنه من واقع تاريخ البريطانيين، فإن رئيس الوزراء العمالي جيمس كالاهان خسر الانتخابات أمام المحافظة مارجريت تاتشر عقب اضرابات واسعة عرفت باسم " شتاء السخط " وعندما تصدت تاتشر لأعمال الشغب في 1981 و 1985 كوفئت في الانتخابات لصرامتها إزاء قضية الحفاظ علي القانون والنظام . ولابد هنا من ملاحظة صعوبة التحدي الذي يواجه كاميرون، فمنذ شهر كان مضطرا للدفاع عن نفسه أمام مجلس العموم في فضيحة ميردوخ،والتي فضحت العلاقة بين السياسة والسلطة والشرطة، وفي عام 2009، كانت هناك فضيحة أخري تمس السلطة في بريطانيا بسبب سوء استخدام مخصصات مالية من جانب أعضاء في البرلمان، فضلا عن أن هناك مؤشرات علي " حالة كراهية من جانب البريطانيين للنظام " علي حد تعبير مصادر قريبة من المشاغبين . ومع ذلك كله، ربما تكون الميزة الكبري والأهم في مجتمع مثل المجتمع البريطاني، مفترض أنه محسوب علي العالم الصناعي الغربي الديمقراطي المتقدم أن غالبية الأطراف بدأت بالفعل في الاعتراف الصريح بالأمراض الاجتماعية التي بدأت تطفو علي سطح الحياة، وتهدد استقرار وتماسك المجتمع في الصميم، وهي الفقر، والبطالة، والتهميش الاجتماعي، وغياب السلطة الأبوية، وسلوكيات أجهزة الشرطة مع المواطنين . صحيح أنه حتي هذه اللحظة ليس ثمة " أي توافق عام " لتفسير الأحداث الاستثنائية وارجاعها إلي أسباب محددة مجمع عليها من كل الأطراف، حيث ان كل فريق، ينظر إلي مجريات الواقع من زاويته، وبناء عليه يحدد الخطوات المستقبلية التي يراها كفيلة بحل المشكلات الرئيسية، ولكن ذلك كله يجري في سياق " الصورة الشاملة " التي تصلح ما فسد هنا أو هناك في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية . فرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون يعتبر أن أحداث الشغب التي وقعت بعد توليه منصبه بنحو 15 شهرا هي نقطة تحول في تاريخ بريطانيا و يصر علي أن بلاده في حاجة إلي خطة مستقبلية لمعالجة " الانهيار الأخلاقي " و ثقافة الكسل والأنانية واللامسئولية التي يراها وحدها مسئولة عن الأحداث . كذلك يركز كاميرون علي مناقشة مشكلات انهيار الأسرة والتفكك وفشل الأفراد في إعطاء المثل الجيد في المجتمع، ويقرر رئيس الوزراء البريطاني أن وزراءه سيبدأون منذ الآن بوضع خطة لتغيير خطابهم ونشاطهم لدعم ما يطلق عليه " اليقظة الاجتماعية " في بريطانيا لمعالجة المشكلات التي تجذرت في المجتمع منذ سنوات طويلة، وبحث الأسباب التي أدت إلي انتشار " الجريمة " وقوضت الانضباط الشخصي، فالمسألة عند كاميرون لا تتعلق بالفقر، ولكن بنوع من ثقافة العنف وعدم احترام السلطة . ويدعو كاميرون المجتمع إلي إجراء حوارات صريحة حول " أسباب السلوك السيئ الذي وصل إلي أعتاب المنازل الإنجليزية "، هذا، مع ملاحظة أن كاميرون يستبعد تماما أن تكون المظالم السياسية والاجتماعية لها أي دور في اندلاع أعمال الشغب الأخيرة . ويبدو أن هناك من يؤيدون هذا التوجه بالإشارة إلي مساوئ نظام التعليم في بريطانيا، وأخطاء نظام التربية والنشأة ومسئولية الآباء، وعدم الانضباط في المدارس البريطانية . غير أن فريقا آخر يري الواقع البريطاني من زاوية مختلفة بالتركيزعلي مشكلة البطالة بوجه خاص . وفي مقدمة هؤلاء يأتي تقرير مؤسسة الأمير تشارلز الذي يحذر من الهوة بين الشباب الفقراء والشباب الأغنياء في بريطانيا مما أدي إلي خلق " طبقة دنيا من الشباب " يعيشون وضعا مأساويا، ويشعرون أنه لا مستقبل لهم، لذلك لابد من تغيير خطط المستقبل لمعالجة هذه المشكلة الخطيرة بكل السبل الممكنة . أما زعيم المعارضة مليباند ومؤيدوه فيرون أن ما حدث كان صرخة استغاثة من المناطق الفقيرة، وأن مستقبل بريطانيا سيبقي رهنا بخطة جديدة لميزانيات مناسبة تتجنب خفض النفقات، مع ضرورة معالجة التوترات القديمة بين المواطنين والشرطة، وإيجاد السبل لتوفير الفرص للشباب وأبناء المناطق الفقيرة، والتفاوت المذهل بين من يعيشون في منازل فخمة، وعلي بعد أمتار منهم يعيش آخرون في عقارات متواضعة للغاية .