الجزء الأول من حديث الشيخ وجدى غنيم الذى تطرقنا إليه أمس، قال فيه إن الديمقراطية قائمة على الكفر. تطرقنا أيضا إلى موضوع الشورى وكيف أنها لا تعنى الديمقراطية، من باب أن الشورى ليست مفتوحة لعوام الناس بل لنخبة معينة من «العدول الضوابط». الجزء الآخر الذى أحب أن أنبه إليه هو أن الشورى فى الإسلام ملزمة إلزاما شرعيا. حسب قول الشيخ وجدى غنيم: «ماعندناش معارضة فى الإسلام». ماذا يقصد بهذا؟ وما الفرق بين هذا والنظام الديمقراطى؟ فى الدولة الديمقراطية الحديثة يصدر القانون بأصوات الأغلبية، ثم يسرى على الجميع، ويجب عليهم الالتزام به. لكن -لاحظ- يظل من حق الأقلية المجاهرة بمعارضته، ويظل من حقهم السعى إلى إقناع الناس بأنه لا يصلح، فإن نجحوا، بعد مدة تطول أو تقصر، فى الحصول على أغلبية تؤيد إلغاء القانون واستبدال آخر به كان لهم ذلك. المعارضة فى النظام الديمقراطى لا تقل أهمية عن التأييد، لأن المعارضة تعمل جاهدة على كشف ثغرات القوانين، وإظهار مواطن خللها، وتقديم اقتراحات لتحسينها، وهذا يصب فى صالح المجتمع ككل، أما فى دولة الأحزاب الغيبية فإن من يعارض القانون بعد إقراره آثم شرعا. قبل أن تتهمنى بأننى تصيدت ما قاله الشيخ وجدى غنيم، وأن هذا ليس ما يتفق عليه عموم الإسلاميين، اقرأ ما قاله المفكر الإسلامى التنويرى محمد سليم العوا فى كتابه «النظام السياسى للدولة الإسلامية»: «... ويجب أن تكون الأقلية التى لم يؤخذ برأيها أول من يسارع إلى تنفيذ رأى الأكثرية.. وليس للأقلية أن تناقش من جديد رأيا اجتاز دور المناقشة». انتهى. مرة أخرى، «الإسلامجيون» لا يدركون الفرق بين التزام الأقلية بتنفيذ القانون الذى صوتت لصالحه الأكثرية، وتحويل القانون إلى «فرض شرعى» لا يجوز للأقلية مجرد مناقشته. إن هذا يهدم فكرة الديمقراطية وتداول السلطة من الأساس. فكم من القوانين فى الدول الديمقراطية حظيت بأكثرية كبيرة ثم اكتشف الناس «بسبب استمرار المناقشة بعد اجتياز دور المناقشة» وبعد تجريب القانون أن رأى الأقلية كان الأصوب فانحازوا إليه. الأساس فى هذا كله نابع من عدم إدراك المفكرين السياسيين «الإسلامجيين» تطور الفكر السياسى، بانتقاله من منطق الجماعة والخارج عليها إلى منطق التداول. تخيل ما سيحدث لو حازوا أغلبية فى مجلس الشعب وأقروا قانونا للضرائب مثلا. حسب كلام الشيخ وجدى غنيم والأستاذ العوا، إن أردت -بوصفك من المعارضين لهذا القانون- أن تكتب مقالا تنتقده بعد إقراره، فلن يسمحوا لك بذلك، لأن «دور المناقشة» ولّى. سيقولون لك إنك «تشق الصف» أو «تكسر عصا طاعة» رأى الأغلبية. وسيأتون بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تفيد بأن يد الله مع الجماعة ويؤولونها بما يؤدى إلى إخراس معارضيهم. فكر تخوين المعارضين الذى نراه حاليا فى حياتنا السياسية هو نتاج لفكر تكفير الخارجين الذى امتلأ به التراث السياسى الإسلامى. ليس هذا ذما فى الإسلام، إنما ذم فى عدم قدرة المجتمعات المسلمة على التطور، ذم فى ركونها إلى تصديق ما يخاطب العاطفة، والتكاسل عن امتحانه واختباره بطريقة عقلية مجردة، ذم فى عجزها عن التفريق بين الثابت (جوهر الدين ومبادئه) والمتحول (أمور دنيانا). فى الدولة الديمقراطية، سيلتزم الجميع بقانون الضرائب الذى حظى برأى الأغلبية، سيلتزمون بتسديد الضرائب حسب هذا القانون، لكن المعارضين سيستمرون فى معارضة القانون بكل حرية من خلال المقالات والفاعليات السياسية، حتى يتغير إن نجحوا فى تغيير الرأى العام لصالحهم، أو يبقى على حاله إن لم ينجحوا. مصر الآن فى مفترق طرق. تستطيع أن تواصل الطريق الذى جربته طوال العقود الماضية مع تغيير اللافتة وبعض المفردات، وتستطيع أن تجرب طريقا آخر سبقتنا إليه دول ناجحة، بعضها دول معظم سكانها مسلم كتركيا وماليزيا، أو دول كانت حتى وقت قريب من دول العالم الثالث، كالهند والبرازيل. كل ما نحتاج إليه هو التمهل، والتفكير بعناية، فى واحدة من المراحل المصيرية لأمتنا المصرية. ونحتاج أيضا إلى الاتفاق، قبل أن يطلق الحكم صافرة البداية، على قواعد اللعبة بالتفصيل، وعدم الاكتفاء بالشعارات الواسعة.