يخطئ من يظن أن تبنى القيم العلمانية فى الحكم يعنى الخوف من الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية، لا. العلمانية ليست اتجاها سياسيا، بمعنى أن هناك علمانيا يساريا يركز على قيم العدالة الاجتماعية ويسعى إلى تضخيم دور الدولة فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وهناك علمانى ليبرالى يركز على قيم الحرية الفردية ويقلص الدولة (كتنظيم سياسى) فى مقابل المجتمع (كمعبر عن حصيلة رغبات الأفراد وأفعالهم). ومعظم الأحزاب الحالية فى العالم، مهما كان تصنيفها، هى خليط من هذه القيم بنسب متفاوتة. ولى عهد الاستقطاب الأيديولوجى الذى شهدته بدايات القرن العشرين، حين كانت الديمقراطية لا تزال حديثة العهد فى العالم خارج أوروبا الغربية وأمريكا. صارت روسيا الأرثوذوكسية خليطا بين قيم كنيستها التى تعظم التراتبية الأبوية وقيم الديمقراطية، وبولندا الكاثوليكية خليطا من قيم الديمقراطية مع قيم تركز على البعد الاجتماعى، وبقيت الدول البروتستانتية الأنجلوسكسونية، مهد الديمقراطية، تركز على الفرد وقدرته. بهذا المعنى، هناك أحزاب إسلامية تتبنى قيما علمانية، أى أنها تفصل بين سلطة المسجد وسلطة القصر الرئاسى، وتؤمن أن فى ذلك خير المجتمع، إذ يكون كل منهما رقيبا على الآخر. لكن هذه الأحزاب ليست، للأسف، موجودة فى مصر التى لا تزال «تتوحم» الديمقراطية حتى الآن، بل موجودة فى الدول التى انفتح مثقفوها، حتى الإسلاميون منهم، على الثقافة الغربية، فزالت من عقولهم العداوة المطلقة لكل ما هو غربى. لو صدق ظنى فى حزب النهضة، فلن يكون إلا حزبا إسلاميا آخر يتبنى قيما علمانية فى الحكم، تماما كحزب العدالة والتنمية التركى. كنا نقول هذا فى الماضى فيسخر منا الإسلامجيون المصريون المنغلقون الذين يقرؤون نفس الكتب منذ أربعينيات القرن الماضى، حتى جاء أردوجان بنفسه وقالها لهم (ومن يومها نزعوا صوره من على حساباتهم الشخصية على «فيسبوك»). استمعت فى لندن قبل سنوات إلى راشد الغنوشى، متحدثا فى مؤتمر للقوى الإسلامية السياسية، شارك فيه أيضا الدكتور محمد سليم العوا. الغنوشى بدا لى ديمقراطيا منفتحا ذا «رؤية حضارية» إسلامية، أما العوا فبدا لى -كما الفلسطينى عزام التميمى- سياسيا شعبويا قادما لتوه من اجتماع بين إيران وحزب الله وحركة حماس. وتفاءلت بالبيان الذى أصدره الحزب بعد فوزه فى الانتخابات «نحن مع إعادة بناء مؤسسات دستورية قائمة على احترام القانون واستقلالية القضاء، واحترام حقوق المرأة، بل وتدعيمها على قاعدة المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن المعتقد والجنس والجهة التى ينتمون إليها».. «من ناحية أخرى، نحن ملتزمون باحترام كل تعهدات الدولة التونسية والأمن والسلم العالميين والأمن فى منطقة البحر الأبيض المتوسط». اقرأ هذا، واقرأ تصريحات الحزب عن السياحة والاستثمار، وقارن بينها وبين خطاب الإسلامجيين المصريين، لتدرك الفرق فى الوعى بالزمن وبالجغرافيا. هل يقرأ الإسلاميون المصريون الحاليون كتابات طارق رمضان، حفيد الشيخ حسن البنا؟ أشك. لأنهم منشغلون بقراءة كتب حسن البنا وأبو الأعلى المودودى. هذه قراءاتهم الإلزامية على الأقل. رغم أن أول ما يدركه الإنسان فى حياته العادية هو زمنه، يدرك أنه لو ارتدى موضة الخمسينيات سيبدو غريبا، ولو تحدث بمفردات الثلاثينيات سيبدو كحسين رياض. لكن كثيرا منا، خصوصا فى أوساط الإسلامجيين، يتهاونون مع هذه القاعدة فى القراءات. كأننا لا ندرك -فكريا- ما نقرأ. وأن الحروف التى تدخل من أعيننا فى الليل تجرى على ألسنتنا فى النهار. أنا شخصيا لن أصوت لحزب ذى توجه دينى، لكننى أعرف أن كثيرين غيرى سيفعلون ذلك، وأحترم رغبتهم. كنت أتمنى أن يصب هذا لصالح أحزاب إسلامجية تتبنى القيم الديمقراطية العلمانية، لا أحزاب تتاجر بها وتدلس لتشويه صورة خصومها كما الأحزاب الإسلامجية المصرية. إن تبنى حزب ذى توجه إسلامى لهذه القيم إضافة حضارية لها وللعالم، أندلس جديد، يمزج بين أفضل ما فى الحضارتين، ويعلم الحزب الإسلامى التفاوض مع الزمن، لا محاربته. وهو تعزيز لقيم الحريات السياسية التى تنتمى إلى عصرنا، بدلا من أفكار الكتب القديمة المكدسة بعرق إبط بعد إبط طوال ألف عام من الكساد والتكرار. من أجل هذا أنا سعيد لفوز حزب النهضة، لنزوله إلى الأرض، وأتمنى أن لا يخيب ظنى. مبروك!