من غير المفهوم مطلقا موقف الإخوان المسلمين الرافض لإجماع غالبية القوى السياسية فى مصر على إصدار عدد من المبادئ التى تمثل الحد الأدنى الذى لا يمكن التنازل عنه فى أى دستور مقبل لمصر. فنحن لسنا أول دولة تضع دستورا لها، وهناك عدد من المبادئ المتضمنة فى العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية التى قامت مصر بالتوقيع عليها مما يكسبها صفة الإلزام، والتى من المؤكد أن يجب تضمينها فى الدستور المقبل وذلك من قبيل المساواة بين المواطنين وحرية الرأى والتعبير وغيرها من المبادئ الأساسية التى يصفها المتخصصون القانونيون بأنها «غير قابلة للتصرف» أى لا يمكن الاستغناء عنها. وإذا كان المتحدثون باسم الإخوان يكررون أنهم يتعهدون أن اللجنة التأسيسية التى ستصوغ الدستور المقبل ستكون ممثلة لجميع طوائف الشعب المصرى، وأن أعضاءها المئة لن يقتصروا على الأحزاب التى ستنجح فى البرلمان المقبل، فما المشكلة إذن أن تصدر وثيقة تتضمن المبادئ الأساسية التى لا يمكن الاستغناء عنها فى أى دستور مدنى حديث لدولة ديمقراطية؟ ولماذا يقيم قادة الإخوان الدنيا ولا يقعدونها بسبب الرغبة فى التوافق حول مجموعة من المبادئ الدستورية الأساسية، ولم نسمع لهم صوتا عندما أضاف المجلس العسكرى أكثر من خمسين مادة للإعلان الدستورى فى مارس الماضى رغم أن الشعب لم يُستفتَ عليها ولا تمثل إجماعا من قبل كل طوائف المجتمع كما هى الحال مثلا بالنسبة إلى قضية ضرورة أن يكون خمسين فى المئة من أعضاء المجالس المختلفة من العمال والفلاحين وغيرها؟ كما أنه يجب عدم الاستخفاف بعقول الناس وتجاهل عقود طويلة من عدم الثقة التى جعلت الشك مشروعا فى العديد من مواقف الإخوان المسلمين وخصوصا فى ما يتعلق بحقوق الأقباط والمرأة والحريات العامة. فالإخوان لهم مواقف مزدوجة فى الغالب الأعم: مواقف لاجتماعات الغرف المغلقة للهيئات التنفيذية المختلفة للإخوان، والمواقف العلنية لزوم العلاقات العامة وانتظار لحظة الحسم. وإذا كان هذا القلق قائما من قوى داخلية وخارجية عديدة، فما الذى يضير الإخوان الاتفاق على وثيقة تمثل مبادئ الحق الأدنى من الاتفاق التى يجب تضمينها فى الدستور المقبل لكى يطمئن الجميع؟ وبينما قد يكون موقف الإخوان مفهوما نسبيا فى إطار سعيهم الواضح للهيمنة على الحياة السياسية فى مصر، وتطبيق النموذج الخاص بهم بعد عقود طويلة من القمع، وانتظارا لانتصار باتوا يرونه قريبا فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، فمن غير المفهوم مطلقا تلك المبادئ والعبارات المطاطة والشمولية التى تضمنتها الوثيقة المقترحة من قِبل نائب رئيس مجلس الوزراء فى الاجتماع الأخير للقوى السياسية بدار الأوبرا قبل أيام، وحيث تبدو البصمات الثقيلة للمجلس العسكرى واضحة فى كل جملة تقريبا. المصريون فى ميدان التحرير كانوا يصرخون «الشعب يريد تغيير النظام» وضحوا بأرواح نحو ألف من فلذات أكبادهم أغلبهم فى سن الشباب لا لكى يعيدوا إنتاج النظام القديم بكل ما كان فيه من استعلاء على المواطنين وتعامل معهم على أنهم قاصرون لا يفقهون الطريق الأمثل لتحقيق مصالحهم. الشعب خرج لأنه يريد محاسبة حكامه والتوقف عن النظر إليهم على أنهم أنصاف آلهة لا رقيب عليهم بزعم أنهم يعرفون أكثر مما نعرف، أو أنهم يطّلعون على الصورة الكاملة بينما نرى نحن المواطنين أجزاء متفرقة. هذه عقلية النظم السلطوية الشمولية، وليست عقلية نظام يسعى لبناء ديمقراطية حقيقية. ما الذى يمنح الجيش فقط دون سواه الحق فى تقرير ميزانيته واتخاذ جميع القرارت الخاصة به من دون أى اعتبار لمجلس الشعب المنتخب من قِبل المواطنين، فى الوقت الذى تنص فى المادة الثالثة من الوثيقة المقترحة على أن «السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات يمارسها من خلال الاستفتاءات والانتخابات النزيهة»؟ إذن الشعب صاحب السيادة على جميع المؤسسات فى ما عدا مؤسسة الجيش، وكأن الجيش هيئة منفصلة عن الشعب، رغم أننا كمواطنين الذين نشكل عماده الأساسى ووقوده فى حالة نشوء أى مواجهات عسكرية. كما أن مصر دولة شديدة الفقر، أيها السادة، ومنهوبة على مدى تاريخها الطويل. وبالتالى من حق الساعين لبناء دولة ديمقراطية حديثة فى مصر أن يطالبوا بالرقابة على جميع أوجه إنفاق الموارد المحدودة لهذا البلد، بما فى ذلك ميزانية الجيش، خصوصا أن قادته هم بشر مثلنا ولا يوجد أحد منزه عن الخطأ. ولكن الأسخف هو افتراض السرية فى أمور باتت معروفة للجميع فى الخارج ولكن تبقى ممنوعة ومحظورة على المواطن المصرى رغم أنه صاحب المصلحة الحقيقية والمباشرة فى ما يتعلق بطريقة إنفاق موارده المحدودة. فقط قوموا أيها السيدات أو السادة بكتابة كلمات قليلة فى محرك البحث «جوجل» على شبكة الإنترنت «ميزانية مصر العسكرية» أو «أسلحة الجيش المصرى» ليصلك فيض من المعلومات الضخمة. وما دام هذا هو المتاح للعامة، فمن المؤكد أنه يمثل القشور فقط مقارنة بما تعرفه أجهزة المخابرات العالمية، وتحديدا الإسرائيلية، عنا. وبالتالى فالتساؤل مشروع عن أسباب تلك السرية المفرطة بل واعتبار الأمر جريمة قد يعاقب عليها بالسجن فى حال نشر أى معلومات تتعلق بالجيش من دون الحصول على موافقة المجموعة 26 المختصة بالشؤون المعنوية للقوات المسلحة؟ الجيش المصرى لم يخض حربا واحدة حقيقية تقريبا منذ عام 1973 (فى ما عدا حرب تحرير الكويت عام 1991). ومنذ توقيع معاهدة كامب ديفيد فى عام 1979، وتسليح جيشنا المصرى أمريكى فى الأساس. وأيضا إذا قمنا بمراجعة ملفات المعلومات المتوافرة على مواقع الكونجرس الأمريكى، فسنجد أدق التفاصيل لكل ما نحصل عليه من الأمريكان بداية من الرصاص وحتى الدبابات والطائرات. فلماذا إذن يصر قادة الجيش على أن يُنص فى الدستور الذى هو أم القوانين على أنه لا يحق لأحد مناقشة شؤونه سواه؟ هذه هى مصر مبارك التى ثرنا عليها وكنا نرغب فى تغييرها. ولكن يبدو أن مبارك قد طار وبقيت عقليته وطريقته فى الإدارة، خصوصا أن القائمين على الحكم هم جميعا زملاؤه ومن نفس جيله تقريبا. وربما يكون المطلوب انتظار جيل جديد من قادة الجيش لم يخوضوا كل حروبنا من أول 1956 حتى 1973 لكى يكون من الممكن التطلع إلى مؤسسة عسكرية أكثر انفتاحا وإيمانا بالديمقراطية وبمفهوم «السيادة للشعب وحده».