هل يمكن علاج آثار الاستبداد فى 9 أشهر؟ نحن الآن أمام فاتورة الاستبداد كاملة، مكشوفة، ما فعله كل ديكتاتور فى مصر يصعد إلى السطح، كاشفا عن أمراض من خبثها لا تبدو أمراضا. الثورة حررت المجال السياسى، وأبعدت يد السلطة عن صناعة المستقبل، لكنها لا يمكن أن تزيل آثار العدوان فى فترة قصيرة، ولا تعالج أمراضا مستوطِنة، ولا تصنع النهايات السعيدة فى عدة أيام. صديقتى المخرجة هالة جلال اقتطفت فى موقعها على «فيسبوك» من كلام عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه «طبائع الاستبداد» من أكثر من قرن من الزمان: «الاستبداد يقلب الحقائق فى الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع، والمُشتكى المُتظلِّم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح، ويُصبح -كذلك- النُّصْح فضولا، والغيرة عداوة، والشهامة عتوّا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضا، كما يعتبر أن النفاق سياسة والتحيل كياسة والدناءة لُطْف والنذالة دماثة». وكأنها تجيب عن سؤال ورد فى شهادة كتبها عادل رمضان على موقع «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية».. الشهادة عن تجربة مع والد عصام عطا السجين الذى تحكى عائلته أنه مات بالتعذيب فى سجن طرة. الأب داخ 6 أشهر كاملة حتى يسمح لابنه بنقض الحكم بحبسه من المحكمة العسكرية، وبعد أن لجأ إلى «المبادرة» وصاحب الشهادة وبعد جهد واضح حُلت المشكلة فى 3 دقائق، ولم يصدق الأب أن ما كان يعذبه طوال هذه الأشهر كان من الممكن حله بهذه السرعة، لكنه اتفاق غير معلن على أن الحقوق يبلها المواطن ويشرب ميتها، والسلطة تفعل ما تريد، ومن ديمقراطيتها تسمح للمواطن إن كانت حنونة بالبكاء والصراخ وربما اللعنات أو الحسبنة. الظلم مقبول عند قطاعات واسعة لأن المستبد سد كل منافذ الرحمة والنور، وهنا يأتى سؤال عادل رمضان الذى وجدت أن إجابته عند الكواكبى.. السؤال هو: لا أعلم كيف أقنعت الحكومة المصرية عددا غير قليل من المواطنين بأن مَن يعمل على دفع الدولة إلى احترام حقوق الإنسان وتمكين الأفراد من التمتع بحقوقهم هم غير وطنيين ويسعون لإفساد البلاد، وأن من ينتهك تلك الحقوق ويحرم المواطن منها بل ويعذبه ويقتله هو ذلك الوطنى الغيور على بلاده؟! انتهى السؤال ولم تنته الحقائق الجديدة التى كشفتها الثورة، أن الاستبداد لم يترك شعبا من الملائكة سيطيرون بعد إزاحة الرئيس بأجنحة إلى دولة الأحلام. لا يزال الاستبداد بضاعة رائجة، ويتصور مثلا الإسلاميون أو غلاتهم أو نجومهم لأنهم يتنافسون الآن على التطرف، أن بضاعتهم هى تقديم استبداد باسم الإسلام. ويتاجر باستبداده بعد أن وضع غلافا جديدا عليه يستخدم فيه الدين الذى لا يمكن المناقشة حوله. هؤلاء الغلاة يتحدثون أولا وقبل كل شىء عن مطاردة الحريات الشخصية، باعتبارها اللعنة السهلة بالنسبة إلى شعب عاش طويلا بالشعور بالخجل والهزيمة بعد يونيو 1967، حين راجت أفكار أن الهزيمة العسكرية هى غضب من الله، وكأنهم يعلنون أن الله يرضى عن إسرائيل. هذا الشعور يكبر من يومها، ويتصور قطاع ليس صغيرا أن كوارث مصر ليست من صنع الاستبداد والفساد ولكنها عقاب إلهى لابتعادنا عن الدين. ومن هذه النقطة يركز غلاة الإسلاميين ونجومهم الذين يلمعون فقط بالتطرف، لأن العقل والاعتدال يطفئ كثيرا من نجوميتهم. هؤلاء انزعجوا من كلام أردوجان عن العلمانية، رغم أنه كلام عقلانى يتحدث عن علمانية الدولة لا علمانية الفرد، وهو ما يعنى أن الدولة تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، وهو ما لا يلغى الدين لكنه يرفعه ويسمو به بعيدا عن عمليات الاتجار. وسينزعجون مما نقله بعض الأصدقاء من تصريحات على لسان راشد الغنوشى زعيم حزب النهضة الفائز بالانتخابات التونسية، قال فيها «إن حرية الناس مقدسة، وليست مهمة الدولة فرض نمط من الحياة على الناس فى ما يلبسون أو يشربون، والدول التى فرضت الحجاب بالقانون فشلت ومواطنوها يخلعون الحجاب فى الطائرات... نحن لا نريد أن نحول الناس إلى منافقين، سنقيم دولة ديمقراطية تزاوج بين الإسلام والحداثة». هل يعرف كل النجوم الذين يكتسبون شعبيتهم من توجيه اللوم إلى الناس ووعدهم بتطهيرهم، أن الحرية الشخصية هى أساس الديمقراطية وأن الثورة ثورة حريات؟ ما زال السؤال: كيف نزيل آثار الاستبداد؟