إن المراقب للساحة السياسية والدينية في مصرنا بعد الثورة يراها في مد وجزر بين تيارات تنازعتها الأهواء السياسية والميول الدينية ، وشغلتها تركة المقاعد البرلمانية ، وأنصبة كل واحد منها في أركان المجلسين ، وأعمدة القبلتين . وفي خضم هذا الصراع وقفت مصر بين أطراف أربعة في طرفي نقيض يعمهون ، وبالخوف من شر غيرهم وضرره يتزرعون ، بحيث اتَّخذت كل طائفة الأخرى وسيلةً لتبرير مواقفها ، وتمرير مخطَّطاتها ، والله من ورائهم محيط ، وهو أعلمُ بما يوعون . أما الطرف الأول : فهم الباكون على حبال الخبرة ، والواقفون على سلم السن ، وهؤلاء يريدون من الشعب أن يؤمن بأنه لا حل إلا بالنظر إلى وراء ، واتخاذ رجال الدولة المخلوعة وزراء وسفراء ، لأنهم الساسة ، أهل الخبرة في القيادة والسياسة . وأما الطرف الثاني : فهم متسلفة وإخوان ، أحدهما يُكفِّر المسلمين ، تارة على استحياء وأخرى بلا حياء ، والآخر لا يرى وجها للإسلام إلا في صورته الغراء ، وكلاهما فيما يراه ، لاَ يُسامحون من تخطاهم فِي ذنب ، ولا يعفون له عن عيب ، يأخذون بالشّبهات ، ويسيرون في موكب تلك الشّهوات ، المعروف عندهم ما عرفوا ، والمنكر ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى سادتهم ، أو قل سدنتهم ، وتعويلهم في المهمَّات على آرائهم ، لا فرق في ذلك بين فتوى سياسة أو دينية ، متناسين عن جهل أَو عمد قول الله تَعالى : { فَسْئَلُوا أَهْلَ الْذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } النحل : 43 . وأَمَّا الطرف الثالث : فهم قوم يريدون لنا دولة لا قيد لها من خلق ولا دين ، علمانية تشبه علمانية الأتراك والألبان في سابق الزمان ، لا استغفار من ذنب ، ولا حياء من عيب . وإذا فُرض وتحدث هؤلاء في الدين اتخذوا من رُخصه مجالا للشواهد ، وجعلوها ميدانا للتسيب والانحراف ، يعولون في كل أمرهم على رحمة ربهم ، مُتناسين عن جهل أو عمد أن من قال : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الْرَّحِيمِ } قد قال بعدها : { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم } الحجر : 49 و 50 . وأما الطرف الرابع : فهم إخواننا الأقباط ، جيران البيت والعمل ، وشركاء الأخوة والوطن . وهؤلاء يبكون الاضطهاد ، ويقفون على سلم المواطنة ، ينشدون أناشيد الحق المهدر ، ويبكون الكنيس المتهدم ، ويطلبون الثأر والانتقام . في كلام كثير وتورية ، يسقيك في آن واحد كأس الحب والبغض ، والشراكة والتملص . تلك هي الأركان الأربعة التي ينظر الشرق والغرب إليها في عيون مصر الثورة وخطابها ، وخطاب مقاعدها في برلمانها وكرسي رئيسها . وهؤلاء الأربعة كل واحد منهم يرى نفسه الشعب ، وأنه المختار لولا ما يلقاه الناس من تخويف ورعب . الشعب يتكلم : والشعب يرى نفسه بينهم موزع ، في فكرهم المزعزع . ولكن الكلمة الأخيرة في هذا الميدان ، لهذا الشعب الذي ثار وليس لأحد عنده يدان ، ولاهو لأي تيار في ثورته مُدان . وهنا يقول الشعب : أنا الشعب بلا انتماءات ولا أهواء ، سوى هوى الحرية التي أداراتها طواحين الهواء بالدماء ، لنتنسم فيها ريحق ديمقراطية تُصان فيها الحقوق ، وتتحقق العدالة ، وتُحفظ الكرامة ، ويُبسط السلام ، وتُبنى الحضارة المعاصرة . أنا الشعب منتميا لحرية الاعتقاد التي كفلتها السماء ، لكل متدين من غير إكراه ولا إسراف ، في وسطية تُصان فيها الحقوق وتحفظ النفوس . ومن أجل هذا فإننا نقف مع كل واحد من هذه الطوائف وقفة تذكير وإصلاح : أما الطرف الأول : فلهم نقول : لو أطعناكم في تولية رجال الدولة المخلوعة لأسخطنا الله الذي من حبال شرورهم نجانا ، وعلى قوتهم وضعفنا نصرنا ، وفي التاريخ عبرة للمعتبر ، فقد ذكر لنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن أناسا قبلنا في الأمم الغابرة ، نصرهم الله على ضعفهم على ظالم استبد بهم ، فلما صار زمام الأمر بيدهم ، لم يروا أنفسهم أهلا لنصر الله ، فأعادوا حكام الأمس الظلمة فولوهم أمرهم ، فسخط الله عليهم ، وفي ذلك روى الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان أنه قال : ضَرَبَ لَنا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْثَالا : وَاحِدًا وَثَلاثَة وَخَمْسَة وَسَبْعَة وَتِسْعَة وَأَحَد عَشَر ، قَالَ : فَضَرَبَ لَنَا مِنْها مَثَلا وَتَرَكَ سَائِرها ، قَالَ : " إِنَّ قَوْمًا كَانُوا أَهْل ضَعْف وَمَسْكَنَة ، قَاتَلَهُمْ أَهْل تَجَبُّر وَعَدَاء ، فَأَظْهَرَ الله أَهْل الضَّعْف عَلَيْهِمْ ، فَعَمَدُوا إِلَى عَدُوّهُمْ فَاسْتَعْمَلُوهُمْ وَسَلَّطُوهُمْ ، فَأَسْخَطُوا الله عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْم يَلْقَوْنَهُ " . فهذه عبرة مذكورة بيقين على لسان نبينا الأمين ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي من لم تنفعه المواعظ والعبر . ولذلك فإن الشعب لن يأخذ بنصيحتكم ، ولن يقلد أمره أحدا ممن تآمر يوما عليه ، أو تحايل بالنصب والرشوة للجلوس في مقاعد حكمه . وأما الطرف الثاني من إخواننا المتدينة ، فمن غير تشكيك في دينكم ولا نواياكم فإننا نريد منكم أن تقفوا عند مقاصد الشريعة وحدودها ، تلك الشريعة التي لم توضع على مقتضى تشهِّي العباد وأغراضهم ، وإنما وضعت على عين العليم الخبير ، شريعة تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد ، في وسطية واعتدال ، وتيسير ودفع مشقّة . وتلك الوسطية هي أبرز سماتها ، التي تُجلّي صُور سماحة الإسلام ، وتُبْرز محاسن هذا الدين ورعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية الكبرى ، وفيها قال الله : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } البقرة : 143 . وقال تعالى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } الحج:78 . وهكذا جاء هدي الإسلام بعيدا عن الغلوّ والتنطُّع ، بعيدا من التَّساهل المُتسيِّب ، وسط بين طرفي هذا وذاك ، إِذ كلاهما درب مِن دروب تلاعب الشيطان ببنِي الإِنسان . يقول ابنُ القيم في المدارج : فما أمر الله بأمر إلاَّ وللشّيطان فيه نزغتان ؛ إمّا إلى تفريط وإضاعة ، وإمّا إلى إفراط وغلوّ ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه ، كالوادي بين جبلين ، والهُدى بين ضلالتين ، والوسط بين طرفين ذميمين . مدارج السالكين (2/496) . ويقول الشاطبيّ في الموافقات : فإنّ الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة ، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا ، لأن المستفتي إذا ذُهِب به مذهب العنت والحرج بُغِّض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مُشاهد . وأما إذا ذُهِب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى . الموافقات المسألة الرابعة : المفتي هو من يحمل الناس على المعهود الوسط (4/607 و 608) وهذه الوسطية تُعْظِم مسؤولية الأمة الإسلامية ودورَها العالمي . ومِن هذا المنطلق يا سادة نقول لكم : إنه لا يُقبل منكم ولا من غيركم أن يجنح إلى طرف الغلو باسم الدين ، وإن احتج بأنه إنما حمله عليه محبة الدين والغيرة عليه ، وأن باعثه الرغبة في الخير ، وذلك لأن التزام أحد طرفي النقيض كما بيّنا عمل غير رشيد ، ومنهج غير سديد ، لمخالفته المعقول والمنقول ، وهما الميزان لصحَّة المنهج وسلامة المعتقد وصواب العمل . وعليهما يقاس إِرادة الإصلاح ، لاَ على القلوب والنِّيات ، فكم من مُصوِّت : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون } وهم في حقيقتهم مفسدون مخرِّبون ، في طرفَي النقيض يعمهون . وأما الطرف الثالث : دعاة علمانية أوربا الشرقية فنقول لهم ما قلناه لإخواننا أهل التدين عن الوسطية الإسلامية في التكاليف الدينية والنظم السياسية ، فما من كلية شرعية إلا ونرى التوسط فيها لائحًا ، ومسلك الاعتدال واضحاً . وكذلك هو الإسلام السياسي ، ففي النظام السياسي جاء الإسلام وسطاً بين النظم ، مبيِّنا حقوق الراعي والرعية ، حاضاً على العدل والقسط ، معلياً قيم الحق والأمن والسلام والسمع والطاعة بالمعروف ، مترسما لمنهج الشوري المتكامل ، سابقا شعارات الديمقراطيات المعاصرة إلى تحقيق منافع البلاد والعباد ، في بُعدٍ عن الاضطراب والفوضى ، محاذرا الدكتاتورية في الحكم والاستبداد في الرأي : { وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللهِ } آل عمران:159 . ومما يجلي وسطية الإسلام جمعه بين الأصالة والمعاصرة ، وتميّزه بالثبات والمرونة ، وحسن التعامل مع المتغيرات ، ووضع الضوابط للاجتهاد في النوازل واستيعاب المستجدات . فهو بثوابته وأصوله يستعصي على التميع والذوبان ، وبمرونته يستطيع التكيف ويواجه التطور بلا جمود ولا تحجر ، بل يبني الحياة على القواعد الشرعية والنواميس المرعية ، التي تستجيب لحاجات الأمة في مختلف الظروف والأحوال : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } المائدة:50 . وهكذا يا سادة : تشمل وسطية الإسلام كل أمور الدين والدنيا والآخرة ، بل إنّ صلاحيته لكل زمان ومكان وجها من وجوه الإعجاز فيه . فلا تخوفوا الناس من الإسلام وتقولوا خوفانهم من أقوام ، ولا تعارضوا الوحي بالاستحسان والنظر ، ولا إلى ما تُمليه أذهان البشر ، ولا تأتوا من الأقوال والأعمال إلا بما فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة ، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير ، فإن كلامكم طرف من الغلو لا بد أن يُقابل بغلو مثله . واعلموا أن الشعب المصري ديِّن بطبيعته ، لا فرق في ذلك بين مسلم وقبطي ، ولا خوف عنده من أن يكون الدين والمعتقد الصحيح متحكما في مجريات الحياة ، ومسيطرا على كثير من الأحكام ، سواء في التكليف الدينية أو في النظم السياسية ، ما دام مرد الأمر سيكون إلى الشريعة الحنيفية السمحة الوسط . وأما الطرف الرابع ، وهم الأقباط فلهم نقول : علام الشكوى والبكاء ، وقد تقاذفتنا وإياكم أمواج من الأنظمة والأهواء ، وعانينا وإياكم من تلاعبهم بنا ، وقلنا وإياكم لقد وعينا الدرس ، وعرفنا من أين تأتي الوقيعة والدس ، ثم لازلنا نقع وإياكم في حبال الغلاة ، فمتى يصح لنا دليل ومتى يستقيم لنا حكم . وقد أخذ إخوانكم على يد غلاتهم فهلاّ أخذتم على يد غلاتكم ، وسألتموهم بصوت مسموع ألاّ يأتوا من الأقوال والأعمال إلا بما فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة ، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير . وهلاّ اكتفيتم من إخوانكم أنهم دون الأمم حولكم ، يرفعون عيسى عليه السلام وينزلونه في نفس المقام الذي ينزلون فيه نبيهم محمدا عليه الصلاة والسلام . لو فعلتم وتفكرتم لرأيتم أن هذا كاف في إصلاح العوج ورد كيد المتربص بنا من سائر الأمم . وبعد أما بعد / والكلمة للشعب : فيا أصحاب الطوائف والأحزاب والجماعات ، كفانا ما شقينا به من ألوان الصراعات ، فقد أنهكتنا بما فيه الكفاية تلك الصدامات ، وألقتنا تلك الألوان من الصلف والتطرف والآحادية في الرأي والشطط في الرؤى والمواقف في هوَّة سحيقة من الفناء ، وبُؤر عميقة من التيه والعدم ، وعانت مصرنا طويلاً من جراء تجاوزات بعض أبنائها والمحسوبين عليها عن منهج الوسطية في مجالات عقدية وفكرية وسلوكية ، بل وثقافية وإعلامية . ولم يبق لنا أمل بعد الله تعالى سوى الاعتصام بحبال الأمة الوسطية ، والتمسك بالاعتدال في كل مناحي الحياة الدينينة منها والسياسية ، فها نحن نناديكم جميعا بعد وقفة التذكير والإصلاح ، حي على الفلاح ، لنبني مصرنا ، بيد تآخ تجمع بين مشاربنا ، لنصحح المسار ، ونحفظ مصرنا من الأشرار ، في الشرق والغرب ، المتصيدين لنا العيب . ولئن فعلنا فإن الأمل في الله كبير أن تنهض الأمة المصرية من عثرتها وتفيق من غفلتها وتجمع من شتاتها ، ويبقى اسم ثورتها مُخلدا على كل لسان . من المقالات المنشورة لكاتبها / محمود عبد العزيز سليمان . من علماء الأزهر .