الخرافة ومعاداة العلم والمنطق أقوى من التعليم وأعمق أثرا فى مجتمعاتنا مهما ادعينا العكس. ابنى الصغير وُلد أعسر اليد، أى أن اليد الرئيسية التى يستخدمها هى اليسرى. وليس فى هذا الأمر أى ميزة تميز صاحبه، كما أنه لا يعيب من خلقه الله هكذا. ولا أعتقد كما يظن البعض أن العباقرة هم الذين خلقهم الله على هذه الشاكلة، فالغباء لا يستثنى أيمن من أيسر. كما لا أعتقد أيضا أن من يستخدم يده اليسرى فى الكتابة وفى تناول الطعام هو من العصاة المارقين الخارجين عن الدين، كما يظن بعض المجانين. اضطرتنى ظروف الحياة للسفر للخارج لمدة طويلة. فى البداية سافرت وحدى وتركت أسرتى بمصر. عند عودتى فى إجازة لاحظت أن ولدى الصغير تبدو عليه علامات التعاسة والغضب، وأنه أصبح عصبى المزاج، ضيق الصدر، يثور لأى سبب بعد أن كان طفلا وديعا هادئا. فى نفس الوقت لاحظت أنه أصبح يتناول الطعام بيده اليمنى على غير المعتاد. أخبرنى قريبى الذى أوصيته أن يأخذ باله من أسرتى فى غيابى فيما لو احتاجوا إليه فى شأن من شؤون الحياة.. أخبرنى وهو شديد السعادة والزهو بنفسه أنه نجح بفضل الله فى تعليم الولد الصغير أن يستخدم يده اليمنى عند تناول الطعام، وأضاف أن الأمر لم يكن سهلا بالمرة، لكن أخذ منه مجهودا كبيرا، ثم اعتذر لى بأنه اضطر أحيانا إلى أن يضرب ابنى، حتى لا يتركه نهبا للعادة البغيضة التى هى استخدام اليد اليسرى! وزاد على هذا بأنه فى سبيله بعد أن نجح فى مهمته هذه أن يبدأ فى تعويده على الكتابة باليد اليمنى أيضا. كنت أستمع إليه والغضب يعتمل فى داخلى، وبى رغبة فى أن أبطش بمن اضطهد ابنى وكلفه فوق ما يطيق، وجعل الولد يتحدى الطبيعة والفطرة التى فطره الله عليها، وهو يظن أنه يحسن صنعا، وحزنت بشدة لرؤية من يعتقد أن الله يثيب من يستخدمون يدا معينة، ويغضب على من يستخدمون اليد الأخرى، مع أن الله هو خالق اليدين، ولا حيلة للإنسان فى أنْ خلقه الله ومراكز المخ تعمل بشكل أساسى مع إحدى يديه فتجعلها اليد الرئيسية وتجعل الأخرى ثانوية. كظمت ثورتى وسألته: لماذا تجشمت كل هذا العناء فى تعليمه استخدام اليد اليمنى مع أن استخدام اليد اليسرى لم يكن ليضر أحدا؟ أجاب: لأن الله لا يبارك إلا لأهل اليمين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يستخدم يمناه فى الأكل والكتابة! قلت وأنا لا أصدق كل هذا الجهل عند قريبى الذى كنت أظنه عاقلا، أولا الرسول صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يقرأ ويكتب، وبالتالى استخدام يده اليمنى فى الكتابة هى حكاية غير صحيحة، وثانيا تناوله الطعام باليد اليمنى يعود إلى أن الله لم يخلقه أعسر، ولو خلقه أعسر لاعتمد على يسراه فى كل شىء. وأضفت أننا يتوجب علينا أن نتأسى بالرسول الكريم فى خلقه وصفاته الحسنة، أما الأكل باليمنى أو باليسرى فلا أظن الرسول ترضيه حالة الاكتئاب التى أصبح عليها الطفل الصغير بفعل قسره على ما يكره، وأنا شخصيا أعتقد أن الله يثيب الناس ويعاقبهم على ما هم مسؤولون عنه، فهو على سبيل المثال لا يعاقب الأعمى على عماه كما لا يكافئ المبصر على إبصاره. لم يفهم قريبى شيئا من كلامى، وظل مصرا على حدوتة أهل اليمين وأهل الشمال التى يفهمها على نحو ساذج، فوجدت لزاما علىّ أن آخذ أولادى وأسافر بهم، وقررت أن لا أتركهم يبتعدون عنى لحظة واحدة، حتى لا يتحكم فيهم مجنون، يضربهم ويفرض عليهم جهله وهو يظن نفسه يحسن صنعا.