لم يتفقا فى شىء إلا موعد الوفاة. ولم يجمع بينهما سوى العبقرية والنجومية فى الرسم والكتابة. الأول هو عمنا الفنان العظيم أحمد حجازى والثانى هو فيلسوف الصحافة المصرية أنيس منصور. كلاهما كانت موافقه على النقيض من الآخر، فحجازى كان -مثلا- يعشق عبد الناصر ويرى فيه القائد الأمثل، بينما كان أنيس لا يحبه، ويرى أن السادات كان الأفضل لمصر. لكن رغم الخلاف بينهما، فالاثنان سيظلان خالدين فى تاريخ بلاط صاحبة الجلالة بأعمالهما العظيمة والمهمة التى يعرفها البسطاء، ويدرك قيمتها المبدعون. فعمنا حجازى ستبقى ريشته علامة فارقة فى فن الكاريكاتير، رغم أنه أراد العزلة وقضى أغلب وقته فى بيت عائلته بقرية كفر العجيزى، إحدى قرى مدينة طنطا بمحافظة الغربية، ذلك البيت الذى شهد طفولته وصباه وشبابه ووفاته أيضا. أما الكاتب الكبير أنيس منصور، فقد عاش طوال حياته نجما فى سماء صاحبة الجلالة، يعشق الرحلات والتنقل بين الدول، ورغم الاختلاف معه فإن قدراته الاستثائية وموهبته الفذة لا خلاف عليهما. رحم الله النقيضين أنيس وحجازى، بعد أن فرقتهما الحياة وجمع بينهما الموت فى «جمعة» شاء القدر أن تكون «حزينة».
رحل أنيس منصور بعد 50 سنة «مواقف» آخر جملة كتبها «أحمد الله أنه ليس لى بنت ولا ولد حتى لا يعانون بعد وفاتى» مدير مكتبه: قام بتسليم مقالاته ل«الأهرام» ليتم نشرها طوال فترة وجوده بالمستشفى لم يعتذر يوما عن عدم الكتابة حتى بعد وفاته! رحل أنيس منصور بعد 50 عاما قضاها فى كتابة عموده اليومى «مواقف» فى الصفحة الأخيرة بين جريدتى «الأهرام» و«أخبار اليوم» وقبلها ما يزيد على 10 سنوات عمل فيها محررا صحفيا ومعيدا بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة قبل أن يتم فصله. أمس (الجمعة) توقف قلب أنيس منصور عن النبض -عن عمر يناهز 87 عاما- داخل مستشفى الصفا بعد ثلاثة أيام قضاها داخل العناية المركزة بالمستشفى بعد إصابته بالتهاب فى الرئة وآلام فى الصدر. وقد أوصى الكاتب الكبير قبل وفاته بأن يتم دفنه بجوار والدته فى مقابر العائلة الموجودة فى مدينة نصر خلف كلية البنات، وستشيع الجنازة اليوم من مسجد عمر مكرم عقب صلاة الظهر على أن يقام العزاء بعد غد (الإثنين) فى نفس المسجد. الغريب أن الأستاذ أنيس عندما أحس بالألم قام بكتابة عدد من المقالات لجريدتى «الأهرام» و«الشرق الأوسط» حتى يستمر فى الكتابة خلال فترة وجوده بالمستشفى حتى يوم الخميس القادم، مثلما أكد لنا نبيل عثمان مدير مكتبه. وكانت آخر جملة كتبها فى مقاله الأخير ب«الأهرام»: «أحمد الله أنه ليس لى بنت ولا ولد حتى لا يعانون بعد وفاتى» مثلما حدث لأبناء الأدباء من قبلى، وأضاف رغم أننى كنت وأنا فى شبابى أحب أن أرزق ببنت لأن أمى جعلتنى أحب «خلفة البنات». كانت زوجة الكاتب الراحل أنيس منصور السيدة رجاء حجاج، برفقته فى المستشفى حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن كانت رفيقة دربه منذ قرابة نصف القرن. إنه عميد كتاب مصر وقراء العالم كما يلقبه صديقه الكاتب الكبير أحمد رجب، فقد قرأ ما يزيد على 70 ألف كتاب و400 دائرة معارف، بالإضافة إلى أنه قام بتأليف قرابة 186 كتابا، تنوعت بين أدب الرحلات والفلسفة والسياسة والفكر من بينها «200 يوم حول العالم» و«الذين هبطوا من السماء» و«الذين عادوا إلى السماء» وكان آخر كتبه «أوراق من حياة السادات». خلال رحلته الطويلة فى بلاط صاحبة الجلالة ترأس تحرير عديد من المجلات منها «الجيل»، و«هى»، و«آخر ساعة»، و«العروة الوثقى»، و«مايو»، و«كاريكاتير»، و«الكاتب»، علاوة على قيامه بتأسيس مجلة «أكتوبر». جدير بالذكر أن الكاتب الكبير حصل على عديد من الجوائز، تمثلت فى الدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة، وجائزة الفارس الذهبى من التليفزيون المصرى لأربع سنوات متتالية، وجائزة كاتب الأدب العلمى الأول من أكاديمية البحث العلمى، وفاز بلقب الشخصية الفكرية العربية الأولى من مؤسسة السوق العربية فى لندن. وحصل على لقب كاتب المقال اليومى الأول فى أربعين عاما ماضية، وجائزة الدولة التشجيعية فى الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1963، وجائزة الدولة التقديرية فى الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 1981، وجائزة الإبداع الفكرى لدول العالم الثالث عام 1981، وجائزة مبارك فى الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2001، وله الآن تمثال فى مدينة المنصورة.
فيلسوف الصحافة عدو عبد الناصر.. صديق السادات.. الصامت عن مبارك لأول مرة منذ سنوات طويلة سيطل العمود الأخير فى الصفحة الأخيرة فى «الأهرام» شاغرا على قراء الجريدة العتيقة، فقد رحل أمس الكاتب الكبير أنيس منصور، بعد آلاف الأعمدة، وآلاف المواقف، والاشتباكات، والاقتراب من السياسة والاحتراق بنارها، وعشرات الكتب والمقولات الساخرة حول المرأة والحياة.. «مواقف» أنيس منصور السياسية تستوجب الخلاف حولها، لكن «مواقف» عموده اليومى فى «الأهرام» كان يستحق القراءة، خصوصا مع سيل الحكايات المترابطة والمتشابكة الذى كان ينهال يوميا بشكل ثابت فى نفس المكان، والذى كان يترك أحيانا فى نفس القارئ سؤالا ما الذى كان يريد أن يقوله، خصوصا أنه يبدأ بحكاية وينتهى بأخرى، دون رابط أحيانا، لكن ربما يبدو الأمر تدفقا كبيرا للأفكار من ذهن الكاتب الذى كان يكتب يوميا أكثر من عمود فى أكثر من صحيفة مصرية وعربية. ولد أنيس محمد منصور يوم 18 أغسطس 1924، فى إحدى قرى مدينة المنصورة، حفظ القرآن الكريم فى سن صغيرة فى كُتّاب القرية وكان له فى ذلك الكُتّاب حكايات عديدة حكى عن بعضها فى كتابه «عاشوا فى حياتى»، وفى دراسته الثانوية كان الأول على كل طلبة مصر حينها، ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة برغبته الشخصية، دخل قسم الفلسفة الذى تفوق فيه، وحصل على ليسانس آداب عام 1947، وعمل أستاذا فى القسم ذاته، لكن فى جامعة عين شمس لفترة، ثم تفرغ للكتابة والعمل الصحفى فى مؤسسة «أخبار اليوم» والإبداع الأدبى فى شتى صوره. بدايته الصحفية كانت فى مؤسسة «أخبار اليوم»، ثم ما لبث أن تركها وتوجه إلى مؤسسة «الأهرام» فى مايو عام 1950 حتى عام 1952، ثم سافر إلى أوروبا، وفى ذلك الوقت قامت ثورة 23 يوليو 1952، ظل يعمل فى «أخبار اليوم» حتى تركها فى عام 1976 ليكون رئيسا لمجلس إدارة «دار المعارف»، عمل رئيسا لتحرير عديد من المجلات منها: «الجيل، هى، آخر ساعة، أكتوبر، العروة الوثقى، مايو، كاريكاتير، الكاتب». كانت حياته الصحفية حافلة، وهى التى أدخلته جنة السياسة، فقد كان قريبا من الرئيس الراحل أنور السادات، وظل أنيس منصور يروى حكاياته مع السادات فى عموده فى «الأهرام» طوال الوقت، لكن ربما كان قربه من السادات، هو السبب فى أنه أصبح واحدا من أشهر المطبعين فى مصر، يتحدث دائما عن أصدقائه اليهود، ويدافع عن اتفاقية السلام، ويروى ذكرياته فى «كامب ديفيد»، لكن يبدو أن لعنة السادات ظلت تطارده حتى قرر أن يطلقها تماما، ففى السنوات التى كانت مصر تمر فيها بأيام حاسمة، كان يخرج فى عموده فى «الأهرام» أو «الشرق الأوسط»، ليتحدث عن حكاياته، وذكرياته، ولعنة الفراعنة. ظل أنيس منصور فى كتاباته صديقا للسادات يدافع عنه، بنفس القدر الذى يهاجم به الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فى حين ظل صامتا تماما على نظام مبارك، وربما يبرر هذا أنه حصل على عديد من الجوائز أيام مبارك، لكن بعد سقوط النظام السابق، خرج أنيس منصور فى حوار على جريدة «أخبار اليوم» وفتح «صندوقه الأسود»، ليصف مبارك بأنه «حرامى وطنى»، معتبرا أن مبارك لم يكن زعيما وورث ثروة مصر دون أى مجهود مثله مثل واحد يجلس بجوار سائق تاكسى وفجأة ضُرب هذا السائق بالنار فأخذ مكانه، لقد تسلم مصر جاهزة فلم يقل شيئا ولم يفعل شيئا فقط رفع العلم على طابا. وعن سوزان ثابت قال إنه جلس معها 17 جلسة باحثا عن جوانب تستحق الكتابة عنها فاكتشفت إنها «فاضية، وماعجبتنيش». وربما لهذا السبب عرف أنيس منصور بفيلسوف الصحافة، ومقولاته عن المرأة والحياة، التى كان ينشرها كل جمعة فى عموده الأهرامى، لكن ربما كان الحدث الأكبر فى حياته الفلسفية هو الذى نجم عن علاقته بالكاتب الكبير عباس العقاد، الذى حكى عنه، فى كتابه «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، لكن أنيس منصور لم يكتب فى الفلسفة فقط، فقد اشتهر أيضا بكتابته فى أدب الرحلات، وله فى هذا المجال عديد من الكتب، منها «حول العالم فى 200 يوم، بلاد الله لخلق الله، غريب فى بلاد غريبة، اليمن ذلك المجهول، أنت فى اليابان وبلاد أخرى، أطيب تحياتى من موسكو، أعجب الرحلات فى التاريخ». اشتهر أيضا أنيس منصور بالكتابة فى الغيبيات والخرافات والقوى الخارقة، وله عديد من الكتب فيها مثل «أرواح وأشباح، الذين هبطوا من السماء، الذين عادوا إلى السماء، لعنة الفراعنة». كان أنيس منصور من الكتاب ذوى العادات الغريبة، فهو لم يكن ينام إلا لماما، ويحكى دائما أنه إذا نام نصف ساعة فى اليوم فهو أعظم ما يمكن فعله، كما أنه كان يقوم ليكتب فى الرابعة صباحا، ومن عاداته أيضا أن يكون حافى القدمين ومرتديا البيجامة وهو يكتب. أشهر أعماله: «الكبار يضحكون أيضا، نحن أولاد الغجر، الوجودية، يسقط الحائط الرابع، كرسى على الشمال، شارع التنهدات، الرئيس قال لى وقلت أيضا، لعل الموت ينسانا، عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا، إلا فاطمة، ووجع فى قلب إسرائيل»، كما ترجم أكثر من 9 مسرحيات بلغات مختلفة وحوالى 5 روايات، و12 كتابا لفلاسفة أوروبيين.
حجازى.. هنا دمى ودموعى وابتساماتى مات زى ما كتف الجبل ينهد.. مات باقتدار وفخار وماقالشى لحد لم يرسم حجازى نفسه إطلاقا خطوط طفل، وخفة دم شعب بأكمله، وحكمة الكاتب المصرى القديم، هذا هو ملخص خطوط الفنان العبقرى عبد العزيز حجازى، الذى فارق الدنيا، أمس، رحل تماما كما قال صلاح جاهين «مات زى ما كتف الجبل ينهد.. مات باقتدار وفخار وماقالشى لحد». بدأ من الطفولة، فرسم شخصية «سمير» المتميز، وكل شخصيات المجلة الشهيرة فى ذلك الوقت، لكنه فضّل أن يعلم الأطفال الذين رفضوا «كامب ديفيد» فى ما بعد، معنى فساد الحاكم، فقدم قصته السياسية الشهيرة فى مجلة سمير «تنابلة السلطان». تتجاوز فكرة حجازى الخطوط البسيطة التى يقدمها، ليختلط فيها الدم بالدموع بالابتسامة المريرة، التى تقول «لا»، تختزن الخطوط عبقرية حجازى القادمة من الدلتا، من مدينة طنطا، والتى آثر أن يعود إليها، ويبقى هناك، بجوار ضريح شيخ العرب السيد البدوى. ولد أحمد إبراهيم حجازى «واحد من بين 11 أخا» قبل 71 عاما، لأب يعمل سائق قطار، يرى من خلاله الدنيا، وتلتقط عيناه الصورة، تلو الأخرى، تفاصيل الفقر وتفاصيل الحياة، وتفاصيل القرى المصرية، يسجلها فى ذاكرته ليقدمها فى ما بعد فى كاريكاتيراته. فى كلية الفنون الجميلة فى القاهرة، كانت البداية، لينتقل منها إلى عدد من المجلات، حتى اختاره الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، للعمل معه فى مؤسسة «روزاليوسف»، حيث عمل بجوار صلاح جاهين، وجورج، ورجائى، بعدها بدأت رحلته مع الصحافة ومع مجلات الأطفال. لم يحتمل حجازى ضجيج القاهرة، ولا فسادها، ولا فساد صحفييها، ورؤساء تحريرها، ومؤسساتها، ولا استطاع أن يرى أمامه المبادئ وهى تباع فى سوق النخاسة، فقرر أن يبتعد، إلى حيث الأهل والأصدقاء، والذكريات القديمة النقية كالطفولة، فى قرية كفر العجيزى فى الغربية، فضّل أن يصبح فردا عاديا، مهموما مثل غيره بآلام مصر، لكنه ظل رغم ابتعاده حاضرا فى كل صفحات الصحف والمجلات التى تنشر رسومه القديمة، والتى كانت تعبر عن الواقع والحاضر بدقة كأنها مرسومة فى التو، فضّل أن يبتعد، كزاهد قرر أن يترك الدنيا، حتى شقته، فى ميدان الباشا بالمنيل، التى عاش فيها طويلا، تركها دون أن يأخذ مقابلا، رغم إلحاح أصحاب المبنى، وقرر اعتزال الكاريكاتير السياسى، والاقتصار على رسوم الأطفال. لم يترك حجازى مصر رغم العروض الكثيرة التى انهالت عليه من مؤسسات صحفية عربية، للأطفال والكبار، لم يغادر سوى مرة واحدة إلى ليبيا، عاد بعدها وبرر ذلك، وقتها، بقوله «أنا مثل السمك الذى يرفض أن يخرج من الماء. كنت أشعر أننى فى سجن كبير»، وربما لهذا السبب، ولانغماسه الشديد فى طين هذه الأرض، جاءت لوحاته معبرة عن واقع وهم هذا الوطن. كان حجازى مبهرا للجميع، عندما شاهد بعض كبار رسامى الكاريكاتير الفرنسيين رسومه، قالوا إنها لا يمكن أن تكون خطوط فنان، لكنها خطوط الكمبيوتر، حتى رأوه يرسم بنفسه، ووصفه رخا بأنه «سيد درويش الكاريكاتير»، أما زهدى فاعتبره «الماستر الذى يضع عليه رسامو الكاريكاتير أعمالهم وإبداعاتهم». لم يرسم حجازى نفسه إطلاقا، مثلما فعل كثيرون من فنانى الكاريكاتير، لكنه فضل أن يرسم الناس والشارع والحارة المصرية، الأسرة الفقيرة أحد معالم عالم حجازى الكاريكاتيرى، التى تتجمع على طبلية لتسخر من أولئك القابعين فى أبراجهم العاجية، عساكر الأمن المركزى معلم آخر من عالم حجازى المتميز، هؤلاء الذين يحيطون بالمواطن البسيط، والذين يتبعونه فى كل مكان، والأثرياء هؤلاء الذين يموتون بالتخمة، وأمامهم الموائد العامرة وفى أيديهم السيجار يخططون للفساد، والفلاحون الغارقون فى همّهم، حتى النخاع، والذى يبكى فقرهم أكثر مما يضحك. لم يفارق حجازى مصر إلا بعد أن قامت بها ثورة، دعا إليها، وحرضت عليها رسومه بالضحك تارة، وبالبكاء تارة أخرى، فارق حجازى مصر والحياة، أمس، ووطنه الذى أحبه ما زال يحتاج إلى ثورة جديدة.