نجح التونسيون فى وضع الحصان أمام العربة. بعد يومين فقط سيذهب الشعب التونسى إلى صناديق الاقتراع لا للتصويت فى انتخابات برلمانية أو رئاسية، بل لاختيار 217 شخصا من جميع الأطياف السياسية لتشكيل المجلس الوطنى التأسيسى الذى سيضع دستورا جديدا سيوضع فى ما بعد أمام امتحان «الاستفتاء» لتدشين مرحلة جديدة فى حياة أول بلد عربى أطلق شرارة الثورة ضد الاستبداد والفساد والتخلف. خلال 10 أشهر لم تتمكن تونس من الخروج من مأزق البطالة، ولم تنجح الحكومات الانتقالية المتوالية، بقصد أو دون قصد، فى حل القضايا الرئيسية وعلى رأسها العدالة الاجتماعية وتوحش تيار الإسلام السياسى الذى استأسد فجأة فى محاولة لإعادة المجتمع التونسى إلى الوراء وتفتيت صفوفه. وفى واقع الأمر، فليس مطلوبا من الثورة التونسية أن تحقق كل أهدافها خلال 10 أشهر. كل ما فى الأمر أن يتم إرساء الأسس الموضوعية والمقدمات الصحيحة لتشغيل آلة الدولة الحديثة. خلال مرحلة ما بعد الثورة التونسية ظهر ما يقرب من 120 حزبا سياسيا، بينها نحو 80 حزبا كارتونيا تعمل لحساب فلول النظام الاستبدادى السابق، بينما الوزير الأول السيد السبسى يظهر طموحه السياسى ويطلق يوميا بالونات اختبار من أجل إيجاد المخرج المناسب للبقاء فى السلطة. عام واحد فقط سيكون أمام المجلس الوطنى التأسيسى لوضع الدستور الجديد والاستفتاء عليه. خلال هذا العام ستمرح الأحزاب العتيقة التى كانت تجمل نظام بن على، وسيغير الانتهازيون من الساسة وطواغيت المال وجوههم وجلودهم لخداع الشعب التونسى مرة أخرى. وسيلعب تيار الإسلام السياسى ألاعيبه المفضلة فى التكفير والتهريج والتحالفات غير المبدئية. كل ذلك وارد بعد سنوات من القهر والاستبداد والفساد ليس فقط فى صفوف النظام السياسى البائد أو الحالى فى تونس بل أيضا فى صفوف قطاع واسع من الساسة الانتهازيين والأحزاب العتيقة والكارتونية التى تأسست على عجل فى محاولة لإعادة إنتاج النظام عموما، وإنتاج نظام بن على على وجه الخصوص. فى 23 أكتوبر 2011 ستذهب حكومة السبسى إلى مثواها الأخير. فكيف سيتصرف المجلس التأسيسى فى الحكومة الجديدة؟ هل ستكون من بين أعضائه، أم سيشكل حكومة من خارج ال217 شخصا؟ وكيف سيتم طرح نسخ الدستور الجديد: جمهورية برلمانية أم رئاسية؟ إلى أى مدى سيكون تدخل دول إقليمية بعينها فى الشأن التونسى الداخلى، وإلى أى مدى ستكون الضغوط الغربية على التجربة التونسية؟ تساؤلات محيرة ودقيقة ومثيرة للقلق، ولكنها مشروعة فى ظل تنامى تحركات الفلول والانتهازيين واستئساد تيار الإسلام السياسى الذى يمارس ألاعيبه المعيبة من تكفير وتشويه المجتمع ككل، والمرأة التونسية العظيمة على وجه الخصوص. سنشاهد تجربة تونسية غير مسبوقة فى العالم العربى ومحيطه الإقليمى. سنشاهدها من هنا، من القاهرة التى لا تزال ترزح تحت حكم العسكر الذين تتزايد طموحاتهم بعد أن كشفت أحداث مذبحة ماسبيرو عن الوجه الحقيقى للتخلف والفساد والطموحات السياسية غير المشروعة. ففى القاهرة وضعوا العربة أمام الحصان وتركوا أمور الدولة ليتفرغوا لممارسة عاداتهم السرية للحفاظ على سلطة 60 عاما من الأحكام العسكرية والفساد المقنن بقوة الرصاص والدبابات والاستهتار بحياة المصريين البسطاء الذين لا يطلبون إلا أبسط حقوقهم فى الحياة الكريمة وإنهاء عصور العبودية والاستعباد والاستعباط. لقد وضعوا عربة التخلف أمام الحصان المصرى الذى انطلق فى 25 يناير لفرملته قدر الإمكان. تكالبت الأحزاب العتيقة وأموال الفلول، اتحدت مع رغبة النظام العسكرى فى إطالة عمره الذى لا يتناسب إطلاقا ومتغيرات الواقع فى القرن الحادى والعشرين، تضافر كل ذلك مع ألاعيب تيار الإسلام السياسى ومراوغته وتحجره الروحى والسياسى، وأصبح المصريون ألعوبة فى يد ثلة بائسة من المرتزقة الذين وجدوا نخبة مثقفة تطبل وتزمر على وقع إعلام حكومى فاجر ومتخلف ووضيع. هذه هى صورة مصر الآن. المخاوف فى تونس تتمحور حول نسبة الإقبال فى انتخابات المجلس الوطنى التأسيسى. وهى مخاوف مشروعة فى ظل محاولات مستميتة لتعطيل الإنسان التونسى وفرملته وإبقائه خارج اللعبة السياسية. أما فى مصر فلا توجد مخاوف، لأن العربة وُضعت أمام الحصان منذ البداية، وأكدت النخب السياسية العتيقة مجددا أنها لا تمثل إلا نفسها وأنها الانعكاس الأصيل للنظام العسكرى طوال 60 عاما وحتى يومنا هذا. ولا تقل النخبة المثقفة عطنا وفسادا عن النخبة السياسية. فمن أفلت من النخبة الثقافية من دائرة الانتهازية وتغيير الوجه والجلد، وقع فى مستنقع البكاء والعويل والتعديد على الثورة التى التهمها العسكر وأتباعهم. يبكون ليل نهار، يلطمون ويكتبون كلمات محبطة تثير الشفقة. لقد قامت الثورة فى مصر من وراء ظهر كل هذه النخب المتحولة والانتهازية. وهبّ المصريون لا فى غفلة من الزمن ولكن فى غفلة من نخبهم الحربائية وأنظمتهم الاستبدادية. المصريون هم الذين وهبوا هذه الثورة قدسيتها بدمائهم فى كل شوارع مصر وأزقتها وأقبية سجونها ولا يملك أى أحد آخر أن يتفاوض باسمهم. المصريون وحدهم من ميدان التحرير إلى كنيسة القديسيْن إلى ماسبيرو هم فقط القادرون على وضع الحصان المصرى الأصيل أمام العربة لخوض تجربة جديدة كأشقائهم التونسيين.