استيقظت من النوم.. أقصد من عدم النوم، مجهدة، منهكة، موجوعة.. الألم مشتاق إلى كل أجزاء جسدى.. أحس ب«دوخة» وعدم اتزان وفقدان شهية «دسم» المذاق لمواصلة العيش. الدم فى رأسى محبوس، لا تحرره كثرة الكافيين فى فنجان القهوة، وكأنه يشق طريقه بين مسام محكمة الإغلاق، معلنا «الإضراب عن التدفق». جسدى يتضامن مع دمى، ويبادر ب«الاعتصام» فى قوقعة أضيق من مقاسى، فأختنق. أشعر أن كل شىء قد نضب. ولا حق لى فى مسيرة احتجاج أو مظاهرة غضب. وهل يجدى الاحتجاج حين تتغير فصائل «الدم» من فصيلة «أ» وفصيلة «ب»، إلى فصيلة «إسلامية»، وفصيلة «قبطية»؟ وهل تنفع المظاهرات الغاضبة عندما يقتل البشر بسبب الأديان المتوارثة؟ أرجع وأقول إننا نحصد ما زرعناه على مدى أربعين عاما، استسلمنا لانقضاض التيارات الإسلامية بجميع أشكالها ودرجاتها على الوطن. على مدى سنوات طويلة فتحنا كل الأبواب ومهدنا الأرض لتيارات إسلامية تجاهد فى سبيل الحكم السياسى، لأن تلعب على وتر الاختلاف العقائدى، وتشحن حساسيات التفرقة الدينية، التى اشتعلت، ليس بسبب نقص الإسلام، لكن بسبب نقص الغذاء، والمسكن، والعمل، والعلاج. وليس بسبب، قلة الدين، لكن بسبب قلة الحريات. وليس انعدام الإيمان، لكن انعدام العدل الاجتماعى. على مدى سنوات طويلة، تركنا هذه التيارات تحكم وتكفر وترهب وتستبيح الدم باتهامات من صنعها، مثل: «ازدراء الأديان»، «إنكار المعلوم من الدين بالضرورة»، «الإساءة للذات الإلهية»، «إهانة الأنبياء والرسل»، «التحريض على الفساد الأخلاقى والانحلال»... و«العمالة للغرب الكافر الحاقد على الإسلام» على مدى أربعين عاما نصحو وننام مع محاكمات دينية وتصريحات وتهديدات حولت الحياة كلها -دون حياء- إلى صراعات دينية، واحتقانات طائفية، ومشاحنات مذهبية، وتجعلنا جميعا كبوش فداء لسيادة اللغة الدينية الإسلامية المتطرفة، الذكورية، الرجعية، المتطرفة، المتزمتة، المتعصبة، والمتعاونة مع حركات إسلام سياسية، محلية، وإقليمية، ودولية. حركات اجتهدت أربعين عاما فى خطة محكمة جيدا، ممولة جيدا، ومدربة جيدا «لأسلمة» الوطن، كبداية «لأسلمة» كوكب الأرض كله، وإبادة أصحاب الديانات الأخرى، واستباحة دم الفصائل المضادة. زلازل دينية كسرت مقياس ريختر وكسرت معه تراكمنا الحضارى المستنير، وتضربنا فى الصباح وفى المساء، ولا أحد يقف أمامها يحمى البيوت والغذاء والماء. جبروت إسلامى للسيطرة والهيمنة يتلاعب بنا كما يشاء، وكأنه اشترى الوطن، أو كأننا قد تم «توريثنا» للمتحدثين بالحق الإلهى؟ النقاب، والحجاب، واستعراض الصراخ الدينى فى الميكروفونات، واعتزال الفنانات، وزعيق الفتاوى الهستيرية فى كاسيت التاكسيات، والمحلات، والمترو، والمسابقات الإسلامية فى حفظ القرآن، والملصقات الدينية على زجاج السيارات، والأوتوبيسات، وعلب البولوبيف، والجرعات المتضخمة للبرامج الإسلامية، وتنجيم الشيوخ، والدعاة، مع تقلص الجرعات الثقافية للشخصيات الفكرية ذات التوجه المدنى، وانتشار الغناء الدينى، والدراما الدينية، وتغطية الفتيات، وهن فى سن الخامسة، وترك العمل وإغلاق المحلات وقت الصلاة، وكثرة بناء المساجد والجوامع فى الشوارع وفى المدارس. فضائيات إسلامية تبث سموم العداء للنساء والأقباط، والجلاليب والذقون وانتشار الأسماء الدينية لتسمية البشر، وكذلك المستشفيات، والمراكز الثقافية، والدروس الدينية فى مكبرات الصوت، وبناء المساجد فى الأندية الرياضية، وسد الشوارع لإقامة الصلاة والإعلانات الدينية، وقطع المواد الإعلامية لرفع الأذان، وفتاوى تحرم الاختلاط والموسيقى والغناء، وتعتبر الأقباط غرباء، وتحية السلام عليكم، وغزو الصحافة الدينية، وزيادة عدد الصفحات الدينية فى كل الجرائد، وإطلاق أسماء المفكر الإسلامى، والكاتبة الإسلامية، والفنانة المحجبة الملتزمة دينيا، وخطوط الطيران المصرية تمنع الخمور وتذيع القرآن على متن الطائرة، والكوافيرات تحدد ركنا خاصا لتجميل المحجبات والمنقبات، والموافقة على أحزاب ذات مرجعية إسلامية. كل هذا «التأسلم» وأكثر منه أصبح هو حالنا. وكان مشهد ماسبيرو، يتكرر، نتيجة هذا «التأسلم» من حين إلى آخر. وفى كل مرة نقول «مؤامرة خارجية»، ليست لها علاقة بالوطن المتسامح المتماسك، أرض الديانات كلها. وبالتالى يسدل الستار على موطن الداء ومنبع النار. ولو سلمنا جدلا أن هناك مؤامرات خارجية، فإنها لن تنجح إلا إذا كانت التربة الداخلية مهيأة للتعاون معها. وهذا «التأسلم» قد خلق التربة الخصبة الممهدة للاستجابة مع أى فتنة خارجية. جميع البلاد معرضة للمؤامرات الخارجية لأسباب مختلفة، لكنها تفشل فى البلاد التى سدت كل ثغرات الاختراق. إن شعارا مثل «الإسلام هو الحل» هو أقصى نقطة فى إثارة الفتن الدينية، وإشعال التعصب الدينى، وازدراء الأديان الأخرى. بل إنه التعبير الأمثل، والمصطلح النموذجى فى استخدام وتوظيف واستغلال الدين من أجل الحكم والهيمنة، والذى ترسخه خطبة صلاة الجمعة، أسبوعيا، على مدى سنوات طويلة.. يوم الجمعة الماضى، 14 أكتوبر، وبعد الدم المراق، يوم الأحد 9 أكتوبر، سمعت خطبة الجمعة بجانب بيتى فى حى شبرا، حيث غالبية السكان من الأقباط. وهذا يفسر كثرة بناء الجوامع والمساجد والزوايا فى شبرا، حتى لا تنتصر الكنائس على الجوامع. الخطبة نصف ساعة بالميكروفون الزاعق، وكلها عن أفضلية الإسلام عن أى دين آخر، فالدين عند الله هو الإسلام، وعن أفضلية الرجال عن النساء. وهذا يتكرر كل جمعة فى أغلب المساجد والجوامع والزوايا فى كل شبر فى مصر. تحريض أسبوعى علنى بالميكروفونات على اضطهاد الأقباط، وعلى ازدراء النساء، وهذا يمر علينا مرور الكرام سنوات طويلة. ثم نقول إن مصر ليس فيها فتنة طائفية. والذكور المسلمون، طبعا، سعداء بأن دينهم يمنحهم الامتياز عن الأقباط، وأيضا يشرع لهم التفوق والقوامة والحريات التى هى محظورة على الإناث. وكل جمعة يخرجون من الجوامع متحفزين ضد الأقباط والنساء غير المحجبات، وربما أيضا ضد المحجبات، بعد أن شحنتهم خطبة الجمعة بأن هذا هو واجبهم، الجهادى الإسلامى. قلتها وكتبتها، مليون مرة، وسوف أظل أقولها وأكتبها حتى أموت، إن ما وصلنا إليه هو مجرد قطرة فى بحور الدم التى تنتظرنا. لم يعد مقبولا أن نستمر فى حالة الخوف والحلول الترقيعية وميوعة القرارات ورخاوة تنفيذ القوانين المدنية الرادعة، وترديد شعارات «الهلال والصليب إيد واحدة»، بينما دم التعصب الدينى يلطخ كرامتنا الوطنية. الحل الجذرى الذى يحقق المواطنة، ويخلق الدولة المدنية، ويحقن الدماء، ويقطع الطريق نهائيا على مجاهدى الحكم الدينى، ومن يدعمهم فى الداخل والخارج، هو: حذف خانة الديانة، وإلغاء المادة الثانية من الدستور بفقرتيها، وفصل الدين عن الدولة. وتبقى الأديان، علاقة شخصية، بين الإنسان وربه، تمده بالقوة الروحية، ويحظر أن يدخلها أحد. والدولة باعتبارها كيانا اعتباريا، لا يجوز أن يكون لها دين، فالدولة لا تصلى ولا تصوم ولا تمارس العبادات. هذا الحل هو الترجمة العملية لشعار «الدين لله والوطن للجميع». هو التجسيد الراقى لمبدأ «لا إكراه فى الدين». هذا مع التسليم بالسعى الجاد المخلص لتحقيق العدل الاجتماعى. إن الظلم بجميع درجاته وأشكاله كفيل بأن يجعل الناس عجينة طيعة لأى استقطاب. ليس هناك، أبشع، من استخدام الأديان والتجارة بها من أجل أغراض سياسية رخيصة، وليس هناك من يريد التمييز الدينى، إلا وكان يهدف إلى الحكم بالدين. وإلا فلماذا يريد معرفة ديانات الأفراد؟ من واحة أشعارى : لا أكتب اليوم بالحبر ولكن بدم الشهداء هل يجف النزف؟ هل يتوقف البكاء؟