صوت الرجل واثق النفس، وهو يقدم سماعة التليفون إلى مفتش التموين، طالبا منه أن يرد على الباشا.. وكان رد مفتش التموين أيضا. ينطق بشجاعة ووثوق فى النفس، وهو يرفض رفضا باتا، أن يستمع إلى أحد عبر التليفون، ويصر على طلباته من الرجل صاحب مصنع «الشامبو» المغشوش، وكان أهمها إبراز رخصة المصنع وسجله التجارى، ورغم محاولات صاحب المصنع لإيهام مفتش التموين، بأن الذى على التليفون هو الباشا، وهو شخصية كبيرة، من الصعب عدم الرد عليها.. ومع ذلك رفض المفتش الانصياع، ورفض صاحب المصنع إبراز أى أوراق رسمية، وما كان من المفتش إلا أن يحرر محضرا بالمخالفة، ويتحدى تهديدات صاحب المصنع الغشاش، وما هى إلا أيام وانكشفت الحقائق التى أكدت أن هناك علاقة وطيدة بين رجل الأعمال الغشاش وشخصية أمنية كبيرة، وتأكد أن أى جهة رقابية لم تقدر أن تصل إلى هذا الرجل، لتكشف مخالفاته، بسبب تلك العلاقة، وما هى إلا أيام أخرى، وكانت التهديدات تصل إلى مفتش التموين حتى من رؤسائه، لأنه اتخذ القرار السليم، لتحرير محضر لهذا الرجل الغشاش. بالطبع نمتلك مثل تلك الأمثلة الكثير والكثير، للدلالة على أن مصر تمتلك مفتشين تموين شرفاء، ومع ذلك نجد أيضا الكثير من الأمثلة التى تثبت أن فى مصر من مفتشى التموين غير الشرفاء، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن من المؤكد أن مهنة مفتش التموين فى مصر تحتاج إلى نظرة أخرى غير النظرة التى يراها بها المجتمع المصرى منذ زمن طويل، مع احترامنا لأصحاب نظرية «إن كل مفتش تموين فى مصر مرتش». لماذا طرحنا هذا الموضوع، لأن السيد وزير التضامن الاجتماعى فى مصر صرح مؤخرا تصريحا غريبا، لا يمكن أن يمر مرور الكرام، وهو أن مفتشى التموين فى مصر غير شرفاء، تعليقا على اتهام شاب مفتشى التموين بالإشراف على بيع الدقيق المدعم فى السوق السوداء، وبما أن هذا التصريح يخرج من وزير هؤلاء المفتشين، وهم رجاله فى الوزارة، وهم المنوط بهم تنفيذ سياسة وزارته، فبذلك نحن أمام منطق غريب لمعالى الوزير، يدعونا إلى أن نتساءل: إذا كان كلام السيد الوزير حقيقة، وهو أن مفتشى التموين فى مصر غير شرفاء، فلماذا لم يتخذ الإجراءات القانونية ضدهم، ولم نسمع أو نقرأ أى قرارات للسيد الوزير بهذا الاتجاه، خصوصا أن مفتشى التموين هم عصب وزارة التموين سابقا والتضامن حاليا، وإذا لم يقدر أن يفعل ذلك، فلماذا لم يخرج لنا ليشرح أسبابه، وبالمرة يعلن استقالته، لأنه لم يقدر كبح جماح هؤلاء غير الشرفاء.. بالتأكيد بيع الدقيق المدعم فى السوق السوداء جريمة لا يمكن أن تغفر لأى أحد من مرتكبيها، ولكن هل لنا أن نتساءل: هل مفتش التموين فى مصر هو السبب الأساسى والرئيسى لمشكلة رغيف العيش، إذا كان هذا هو رأى معالى الوزير، فنستطيع أن نؤكد له أن معلوماته غير كافية، وأن معاونيه وموظفيه الكبار فى الوزارة لم يقدموا له المعلومات الكافية فى ذلك المجال.. ألا يعلم السيد الوزير أن قرار الوزارة الخاص بإنتاج الخبز يتضمن أن 100 كيلو دقيق تخرج 1040 رغيفا، بينما الحقيقة التى لا يعرفها الوزير، وضعها مستشاروه ومستشارو من قبله، إن ال100 كيلو تنتج 1200، أى بفارق 160 رغيفا، وذلك يحدث وفرا فى الدقيق لأصحاب المخابز، يتخلف من مخبز إلى مخبز حسب حصة المخبز، ولكن على الأقل وزارة التضامن تعطى هدية لأصغر مخبز فى قرى مصر، الذى حصته من الدقيق تصل إلى 6000 كيلو، تعطيه على الأقل جوالا من الدقيق يوميا هدية، والمخابز ذات الحصص العالية فى القاهرة والإسكندرية وكل المحافظات تستولى على عشرات من الأجولة هدايا من معالى الوزير ومستشاريه.. ألا يعلم السيد الوزير أن مفتشى التموين فى مصر من سنوات قليلة أصبحوا ليس هم أصحاب القرار الوحيد فى تحرير محاضر للمخابز لأى مخالفات، بسبب تكوين لجان من الوحدات المحلية والتموين للرقابة، ويمكن لأى موظف للوحدة المحلية أن يعترض على قرار مفتش التموين لتحرير محضر.. ألا يعلم السيد الوزير أن مشاريع بيع الخبز فى المحافظات أصبحت «سبوبة» كبيرة للمحافظين وسكرتير العموم ورؤساء المدن وكبار الموظفين، وبعد ذلك يصل الخبز إلى الجمهور فى أسوأ حاله؟.. ألا يعلم السيد الوزير أن الخبز يتم نقله بعد إنتاجه من المخابز فى بعض المحافظات على عربات نقل روس البهائم؟.. إن تضييق وتصغير قضية رغيف الخبر ومشكلاته المتنوعة فى مصر، بداية من سوء حالته، ومرورا ببيع الدقيق المدعم فى السوق السوداء، وصولا لمشروع السبوبة فى المحافظات، هو مشروع توزيع الخبز على المنازل.. تصغير وتضييق المشكلة وحصرها فى مفتش التموين فقط، هذا يدل دلالة كاملة على أننا فى مصر لا نمتلك وزارة تضامن.