تفاصيل دقيقة تستطيع أن ترى من خلالها الروح المصرية، وكيف أنها تمسك بشيء يبدو عابرا، إلا أنه لا يخلو من دلالة مثل نظرات الراجل اللي واقف وراء عمر سليمان، الذي كان يعلن أهم خطاب في تاريخ الثورة وهو تنحي مبارك.. الراجل اللي واقف وراء سليمان سرق منه كل اللحظات التاريخية.. هل ننسى الراجل الذي وضع ذيل جلابيته في أسنانه وهرول إلى أرض الاستاد، ولم يكن ينتوي -على رأي المخلوع- سوى أن يلتقط صورة مع أي من لاعبي الزمالك، نسيت الناس أن الأمن فشل في تأمين مباراة كرة، ولم يتذكروا سوى الراجل أبو جلابية وشبشب، وفي رواية أخرى صندل.. كان اللواء الفنجري أحد «أيقونات» الثورة وهو يقدم التحية العسكرية لأرواح الشهداء، صورته كانت لها مساحة مميزة في كل الفضائيات، واعتلت مكانة خاصة في ميدان التحرير وفي قلوب الناس، إلا أن إصبع الرجل في بيانه العسكري أطاحت بكل ذلك، فقد بسبب إصبع واحد كل ما كان قد حققه من قبل بأصابعه الخمسة.. لو أنك تذكرت الخطاب ونحيت جانبا الإصبع، فسوف تجد أن الرجل لا يستطيع أن يقرأ اللغة العربية، كما أنه لا يدري أين السكنات والوقفات متى ينتقل من فقرة إلى أخرى متى يغير إيقاع الأداء ومستوى النبرة، وإلي أين تتجه النظرة.. كان الفنجري مثل تلميذ خائب أيقظه أبوه مبكرا على غير إرادته لحفظ المقرر لأول مرة، واللحاق بالامتحان، فكان مصيره هو «الكحكة» في ورقة الإجابة.. سوف أنعش ذاكرتكم بفيلم «خطاب الملك» الحاصل هذا العام على «الأوسكار»، كان «جورج السادس» قد وصل إلى كرسي العرش «البريطاني» في مطلع الثلاثينيات مع بداية بزوغ عصر الراديو، وكان مصابا باللعثمة، فكيف يحكم شعبا لا يستطيع أن يتواصل معه، ذهب إلى الدكتور «ليونيل لوج»، الذي استطاع أن يدربه على فن مخاطبة الجماهير، ونجح الملك في الامتحان وصدقه الناس.. أغلب البشر ليس لديه القدرة على التواصل الجماهيري، ولكن هذا لا يعني أنهم لا يحق لهم مخاطبة الناس.. التدريب في هذا المجال فن له قواعده، بل إن بعض المحترفين يتلقون بين الحين والآخر دروسا.. بالمناسبة كان عدد كبير من المطربين والمطربات حتى السبعينيات يحرصون على «كورسات» مكثفة لأصواتهم عند سيدة أرمنية تدعى مدام «رطل»! الآن مع عصر الصورة أضيف للصوت لغة الجسد، وتختلف القدرات في الأداء من إنسان إلى آخر، كان حسني مبارك يذكرني في خطاباته بالمشهد الشهير في «اللمبي»، عندما كان محمد سعد يكرر الكلمات التي يسمعها من شاب بجواره، فيعيدها بدوره لحبيبته حلا شيحة دون أن يدرك معانيها، بينما السادات كان يمتلك ناصية هذه الموهبة، ولهذا اختاره الضباط الأحرار لإلقاء أول بيان لثورة يوليو، وكان قادرا على الإحساس بالكلمات، وبمدلول لغة الجسد، وكان يضيف في خطابه الكثير بلمحية وذكاء! لا أعتقد أن قيادات المجلس الأعلى، سواء المشير طنطاوي أو نائبه الفريق عنان، يجيد أي منهما هذا الفن، وربما تضطرهم مجريات الأمور في القادم من الأيام إلى مخاطبة الجماهير مباشرة أو عبر الكاميرا، ولهذا يجب أن يبحثوا بسرعة عن الدكتور «ليونيل لوج» قبل أن تصيبهم لعنة «إصبع الفنجري»!