خطابات الزعماء والقادة عبر التاريخ لطالما حملت كلمات ملهمة وملهبة لحماس الشعوب ,مساعدة اياهم على اجتياز محنة تمر بها البلاد , او محفزة لطاقاتهم الانتاجية والابداعية , او حتى مطمئنة لمخاوفهم وقلقهم. وتاريخ مصر المعاصر , زخر بالعديد من الخطابات الحماسية التي التف حولها الشعب بل وحفظها ورددها ..فخطابات عبد الناصر والسادات على سبيل المثال ,حفرت في ذاكرة ووجدان اجيال ابائنا . ولكن في عهد الرئيس المخلوع مبارك تغير الحال كثيرا ً!! فانا انتمى الى الجيل الذي منذ ان ادرك ما حوله لم يجد له رئيسا الا مبارك , ومع ذلك لا اتذكر انني جلست يوما امام التلفزيون وشاهدت واحدة من خطبه.. والسبب مفهوم لديكم جميعا - وانا هنا لا اتحدث فقط عن عدم امتلاك مبارك لمؤهلات الخطيب المفوه والزعيم القائد- وانما اتحدث ايضا عن نظام باكمله كان قائما على الكذب والتضليل للشعب, وبالتالي لم يجد احدنا نفسه مضطرا او راغبا في مشاهدتها او حتى جزءا منها. . اما اثناء وبعد الثورة , عادت الخطابات لتلقى رواجا لم يسبق له مثيل , فلا ينسى احد منا الخطابات الثلاث لمبارك قبيل التنحي , خاصة واننا انتظرناها لما لا يقل عن 3 ساعات في كل مرة , وارتفع ضغط وسكر اغلبنا بعد كل مرة ايضا !! وحمداً لله انتهت المعاناة بعد البيان القصير لعمر سليمان الذي اطربنا جميعا , والذي اعتبرته الخطاب الامثل خلال فترة الثورة ,فقد كان موجزا وكلماته مركزة "فيه الخلاصة م الاخر" مما دعى الكثيرين الى التساؤل - وانا اولهم- لماذا لم يصغ مبارك خطاباته المملة والرتيبة بهذا الشكل الممتاز ,على الاقل لكي نتذكره باي خير يشفع له لاحقا. و لكن بعد ذلك جاء المجلس الاعلى للقوات المسلحة لينشر بياناته بطريقة هي الاكثر ابتكارا حتى الان , من رسائل قصيرة على الهواتف المحمولة , وبيانات تنشر على الصفحة الرسمية للمجلس على موقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك" في شكل رسائل مرقمة .. والحقيقة انها كانت خطوة موفقة للغاية , فبدايةً اراحتنا هذه الطريقة من ملل ونمطية البيانات الرسمية المعتادة , كما انها اوصلت رسالة مهمة للغاية , وهي إدراك المجلس لطبيعة وخصائص الجمهور الذي تتوجه اليه , ومخاطبته باللغة والطريقة التي يفهمها, الذين كانوا وقود هذه الثورة التي اتت بالمجلس العسكري الى موضع السلطة في المقام الاول , وليس ذلك فحسب وانما ايضا اتاحت للمجلس التعرف على ردود افعال سريعة وفورية وصادقة للمواطنين تجاه هذه الرسائل, بغض النظر عن إلتفات المجلس من عدمه الى ردود الافعال تلك . وفي الاسبوع الماضي , ظهر لنا وجه اخر لخطابات المجلس الاعلى , تجسد في خطاب اللواء الفنجري , صاحب اللقطة الشهيرة التي قدم فيها التحية لشهداء ثورة 25 يناير , مما اكسبه حب وتقدير كثير من الشباب المصري , الذي انشأ له صفحة على الفيس بوك وصل عدد المشتركين بها - قبل اغلاقها مباشرة - الى ما يزيد عن 97 الفاً, فقد كان هذا الخطاب كان مخيبا لتوقعات الكثيرين , بل انه للحظة أعاد لنا ذكريات خطابات مبارك !! فقد كانت لهجة هذا الخطاب عنيفة وحادة , ولغة الجسد للواء الفنجري توحي بالتهديد والوعيد خاصة اصبع السبابة الذي لم يكف عن الصعود والهبوط في وجوهنا جميعا, مما ضايق الجماهير وخاصة الشباب , الذي لا يقبل ولا يصح ان يخاطب بمثل هذه اللهجة بعد ان قام بثورة اذهلت العالم اجمع بتحضرها وسلميتها .. فبعد الخطاب انطلقت موجات غضب عارمة على الفيس بوك , بدات باغلاق صفحة الفنجري , وبعض السخرية والتهكم من قبل الشباب تمثلت في انشاء صفحات على شاكلة "احنا ما بنتهددش يا فنجري " , والعديد من الرسوم الساخرة والكاريكاتيرات التي علقت على هذا الخطاب ايضا . وفي الجهة المقابلة , تطوع اكثر من مقدمٍ لبرامج التوك شو لتقديم تفسيرات وتحليلات وتبريرات لهذا الخطاب ولهجة الفنجري به , منها ان اللواء الفنجري رجل عسكري صارم , اعتاد على التحدث بهذه اللهجة بحكم طبيعة عمله القاسية .. فبخطاب ترتفع امالنا , ثم تعود لتهبط بسرعة فائقة بخطاب اخر , ونحن الان بانتظار .. "صباع اخر" اقصد خطابا اخر . .. ربنا يستر.