ربما لأننا نعيش أجواء جائزة نوبل، وربما لأننا نمر هذا العام بمئوية نجيب محفوظ، وربما لأنه فى هذا الأسبوع تمر ذكرى محاولة اغتيال أديبنا العظيم فى 14 أكتوبر 1994، ربما لهذا كله فإننى أفكر كثيرا هذه الأيام فى المشهد التالى: شاب صغير فى الحادية والعشرين من عمره، اسمه محمد ناجى مصطفى، بائع سمك، يقف مترقبا بالقرب من بيت نجيب محفوظ فى العجوزة، ينتظر وينتظر حتى نحو الخامسة عصرا، عندما تقترب الشمس من المغيب، ينزل عميد الرواية العربية، متمهلا من بيته، ويتجه نحو سيارة صديقه الطبيب فتحى هاشم، يساعده الصديق على الركوب، ثم يدور أمام السيارة ليجلس أمام مقعد القيادة، وفى تلك اللحظة يقترب الشاب محمد ناجى من السيارة، كما يفعل الكثيرون من مريدى الأديب العظيم، لكنه لم يقترب ليسلم على أديب نوبل، بل رفع يده بمطواة وطعنه بها، ثم هرب، تاركا المطواة فى رقبة محفوظ التى تفجرت بالدم. القصة معروفة، لذا لن نعود إلى تفاصيلها «رواية (أولاد حارتنا)، والتكفير، وفتوى عمر عبد الرحمن، وقرار محمد خضير أحد قيادات (الجماعة الإسلامية) بقتل محفوظ، وعناية الله التى أنقذت مصر بمعجزة من عار قتل أعظم أدبائها، كل ما سبق لم يعد فيه جديد يقال، وسواء أحببت محفوظ أو لم تحبه فإن أدبه جزء منك، هو موجود فى «سى السيد» و«الحارة» و«الحرافيش» و«الفتوات» ويمثل جزءا محوريا من الثقافة العربية الحديثة، لذا فليس هذا مما نناقشه اليوم، وإنما فقط كنت أدعوك إلى أن تتذكر المشهد الدموى، ثم تتساءل معى: ترى فيمَ كان يفكر القاتل عندما رأى ذلك الرجل (محفوظ) الذى حدثوه عنه، فوجده رجلا كبيرا فى الرابعة والثمانين من عمره، يتوكأ على عصاه ويمشى بصعوبة، حتى إن مرافقه يساعده على مجرد الجلوس فى السيارة؟ فيمَ كان يفكر ذلك الشاب صغير السن؟ وأى رحمة اختفت من قلبه، عندما اتجه نحو العجوز بكل فتوته، وبسلاحه الحاد، ورفعه عاليا ثم انهال به على الرقبة المتغضنة الضعيفة؟ لنسأل السؤال بشكل أوضح، كيف ظن ذلك الشاب، أن الدين، أى دين، فما بالك بالإسلام الذى قال إن امرأة دخلت النار فى هرّة -مجرد هرّة- حبستها، يأمره بأن يطعن شيخا عجوزا يمشى بالكاد، وأنه بذلك سوف يدخل الجنة؟ ثم ماذا عن الغيلة؟ القتل غدرا؟ التنازل حتى عن أبسط القيم والأخلاق الطبيعية، التى تتطلب أن تواجه خصمك؟ حتى الأطفال الصغار، عندما يفاجئ أحدهم زميله، يقول له زميله «أخدتنى على خوانة»، فما بالك بإزهاق روح؟ ما بالك أن يكون ذلك لهدف يتصوره صاحبه دينيا؟ يحكى محفوظ لمحمد سلماوى فى كتابه «وطنى مصر»: «إننى لم أر الشاب الذى اعتدى علىّ.. لم أر وجهه، الذى حدث هو أننى وأنا أهم بركوب السيارة لأذهب لموعدى مع أصدقائى فى الندوة الأسبوعية، وجدت شخصا يقفز بعيدا، وكنت قد شعرت قبلها بثوان معدودة وكأن وحشا قد أنشب أظافره فى عنقى، وقد دهشت ولم أدرك ما حدث بالضبط». طبعا نحن نعرف ما حدث بعد ذلك، ونعرف أن محفوظ الذى عجز بعد ذلك عن استخدام اليد اليمنى التى أسست الرواية العربية، بدأ يتعلّم فى هذه السن الكبيرة أن يكتب باليسرى، وقبل ذلك سامح قاتله وتمنى أن لا يعدموه، يقول فى الكتاب نفسه «إن الشاب الذى رأيته يجرى كان شابا يافعا فى ريعان العمر، كان من الممكن أن يكون بطلا رياضيا، أو عالما، أو واعظا دينيا، فلماذا اختار هذا السبيل؟». لكن الدولة كانت وقتذاك فى أوج صراعها مع الجماعات المسلحة «ولا أقول الدينية»، فحوكم محمد ناجى مصطفى عسكريا، وصدر ضده حكم بالإعدام، وقد قال فى أثناء التحقيقات إنه لم يقرأ حرفا لمحفوظ، ولكنهم «قالوا له» إن هذا الرجل كافر.كان محمد ناجى عضوا بسيطا فى جماعة تتصور أن الله خلق العقل، لا ليفكر، بل ليطيع أمر الأمير، وقد أُعدم محمد، أما أمراء «الجماعة الإسلامية» فقد خرجوا اليوم من السجون، ويؤسسون أحزابا، بغية المشاركة فى وضع الدستور الجديد، بعد أن أعلنوا تراجعهم عن العنف، لا لأن العنف والقتل -فى نظرهم- خطأ، وإنما لأن العنف «يستعدى جميع شرائح المجتمع على الجماعات الإسلامية، ويسمح للأمن بالفتك بأعضاء الجماعة وأهلها، ويعطى ذريعة لمهاجمة الإسلام فى حد ذاته، ويقدم أسوأ صورة عنه فى الغرب». لم يكن محمد ناجى، بائع السمك البسيط، يحتاج إلى أن يقرأ نجيب محفوظ، أو يتمعن فى فتاوى الأئمة، كان فى حاجة فقط إلى أن يستفتى قلبه، أن ينصت لصوت إيمانه البسيط الفطرى قبل أن يعتدى بسكينه غدرا على شيخ فى عمر جده، كان ينبغى عليه فقط أن يسأل نفسه: هل يمكن لجريمة أن ترضى الله؟ ملحوظة: كُتب هذا المقال قبل مذبحة ماسبيرو