الأستاذ إدوارد لورينتز فى غرفة أرصاد جوية. يحاول التنبؤ بحال الطقس فى يوم معين فى المستقبل. الكمبيوترات قديمة، لذلك لا تظهر القيم الرقمية إلى الآخر، بل تكتفى بذكر ثلاثة أرقام فقط بعد العلامة العشرية. السيد لورينتز لم ينشغل بهذه الحقيقة، ولا انشغل بها أحد من الباحثين معه. فالفروق فى القيمة ضئيلة للغاية، كسور من عشرة آلاف. أخذ لورينتز القيمة التى أظهرها الكمبيوتر فى منتصف المدة الزمنية محل البحث وبنى عليها حساباته، وخرج بنتيجة لما سيكون عليه الحال فى نهاية المدة. نتيجة الحسابات التى أجراها لورينتز اختلفت تماما عن النتائج التى حصلت فى الواقع حين جاء الموعد. أى فشلت تجربة لورينتز. لكن الفشل- على عادة العقول العلمية- دفعه إلى التفكير فى أسبابه. القيم الصغيرة جدا التى تغافل عنها الكمبيوتر فى بداية التجربة، تحولت بفعل الزمن، وبفعل ديناميكة الطقس (حركته المستمرة، وتداخل القوى والعوامل)، إلى فروق ضخمة. ومجازا، أطلق على هذا، تأثير الفراشة. أى التأثير الضئيل الذى تحدثه حركة جناحى الفراشة فى الطقس عند نقطة ما، والذى يتضخم بعد فترة زمنية معينة (أو مسافة جغرافية) فيصير عاصفة أو إعصارا. السياسة ليست كالرياضيات، إنما كالفيزياء. لا بد أن تأخذ فى الاعتبار مختلف العوامل ولا تهمل أيا منها. سأضرب مثلا من بريطانيا. حين اختار رئيس الوزراء الحالى، ديفيد كاميرون، أندى كولسون ليكون مسؤوله الإعلامى حذره كثيرون. أندى كولسون استقال قبلها بأشهر من منصبه بصفته رئيس تحرير صحيفة «نيوز أوف ذى وورلد» على خلفية اتهام للصحيفة بأنها تنصتت على هواتف محمولة. لكنه لم يتهم من الشرطة وقتها بأى مخالفة. المقربون من رئيس الوزراء نصحوه بالبعد عن مخاطر قضية كهذه لأنها قد تتضخم ولن يستطيع أحد احتواءها. لكنه أصر على رأيه. الآن تحولت القضية من مجرد التنصت على بضع تليفونات محمولة إلى قضية فساد تهدد إمبراطورية ميردوك الإعلامية بالانهيار، رئيس شرطة بريطانيا استقال، نائبه أوقف عن العمل فاستقال، أرفع مسؤولى التحرير فى «نيوز أوف ذى وورلد» استقالوا، من بينهم ربيكا بروكس، المديرة التنفيذية، وصاحبة النفوذ الرهيب. يكفى أن تعرف أن رئيس الوزراء استقبلها ستا وعشرين مرة منذ تولى الحكومة قبل خمسة عشر شهرا. لكن الشرطة ألقت القبض عليها وأفرجت عنها بكفالة. والأسئلة الآن تطرق على باب رئيس الوزراء نفسه. الخطأ فى الحساب السياسى عند مسؤول رفيع كهذا كارثة، يشبه خطأ عالم مرموق فى حساب المعادلات. (ممكن الصاروخ يطلع من هنا على القمر، يلاقى نفسه فى زحل). لكن الجميع يعلم أن لا مهرب من الخطأ فى الحساب لمن يشتغل بالسياسة. وأن هناك فرصة لكى نحول هذا الفشل إلى نجاح بالنقد الذاتى، وبالنظر إلى العوامل التى لم تكن فى الحسبان، والانفتاح على سماع تعليقات الآخرين. أسوأ شيء يفعله المهتم بالسياسة هو تخويف الناس من معارضته. كثيرون منا يبحثون عن منهج للثورة المصرية بالاقتداء بثورات، كان أقربها منذ أكثر من نصف قرن. لا يلتفتون إلى أن عوامل جديدة، كتعليقات الفيسبوك وتويتر وسهولة السفر والفضائيات وقدرة كل مواطن على رصد الأحداث وعلى التعبير عن رأيه فى دائرة ما، تحتم على الثورة أن تكون مختلفة عن ما سبقها. هذا شيء أشعر أنه غائب عن فكر المجلس العسكرى وهم يستعجبون من اتهامهم بالبطء وعدم الشفافية، وغائب عن فكر واضعى التعديلات الدستورية وهم يفصلونها على نموذج المواطن الصالح فى حقبة ما بعد الاستعمار. لكننى أخشى أن يغيب أيضا عن بعض المخلصين فى الثورة (وهى التى أبهرت العالم بوعى أبنائها بمعطيات عصرهم واستخدامها فى التواصل والحوار مع الآخرين واحترام رأيهم). الحوار الحوار. فى تجارب المجتمعات هذا هو الأسلوب الوحيد الذى سينبهك إلى ما خفى عنك من عوامل، وسيلفت نظر الآخر إلى ما لديك من ملاحظات. ثقافة التخوين والإقصاء لو سادت ستعطل المسيرة السياسية للأمة المصرية.