ما أكثر المؤتمرات والدعوات والكلمات والشعارات التي تتخذ من التعليم مادة لها!.. لكن ما أقل وما أضعف البرامج التنفيذية على أرض الواقع المؤلم عمليا وتعليميا وسلوكيا، ولذلك تبقى النظرة إلى التعليم سطحية ومسطحة، فالتعليم ليس مجرد مناهج يتم تلقينها في المدارس والجامعات، إنما هو أكبر من ذلك بمسافات ضوئية.. وأهم من المناهج يتجلى (المعلم) والاهتمام به في الشكل والمضمون، وكثيرة هي الأطروحات النظرية لدينا والتي تبتعد عن الواقع، فالمسافة بين التصورات والتصديقات لدينا واسعة وشاسعة، وتغفل عن الحقيقة الإلهية (كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). أتعبتنا التنظيرات وأرهقنا المتحدثون ليل نهار.. وهم في دوائرهم المغلقة منذ عقود ولا يريدون أن يفتحوا نوافذهم لتغيير هوائها.. فقد جرى في النهر ماء كثير.. لذلك حدقت طويلا في رسالة موضوعية وواقعية من قلب الواقع التعليمي المعاش في عالمنا العربي الذي يعاني من مأساة إهمال التعليم.. ووضع العلم على الهامش. أما الرسالة فصاحبتها الأستاذة «أحلام» وهي مدرسة سورية لطلاب المرحلة الثانوية. تقول في سطورها: علمتني مهنة التدريس أن الفكرة والمعلومة لا يمكن أن تصل إلى عقل المتعلم ب(كبسة زر) فقد خلق الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض في ستة أيام وهو الذي أمرُه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ليعلمنا أن هناك أمورا كثيرة في الحياة لا تأتي ب(كبسة زر)! ومكث سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم وملائكته، في مكة ثلاثة عشر عاما وهو يزرع في النفوس كلمة واحدة (لا إله إلا الله محمد رسول اللّه) ليعلمنا أن قطف ثمار التعليم ليس ب(كبسة زر). لكن للأسف عقلية الكثير من المدرسين والخطباء والمربين اليوم ليست عقلية قرآنية بل هي عقلية (كبسة زر). ينهي المدرس شرح درسه وهو يظن أن جميع طلابه قد فهموا واستوعبوا ما قاله ب( كبسة زر). يحضر البعض دورة شرعية مدتها ستة أشهر فيشتعل حماسا ليغير حياة أهله وأصحابه ب(كبسة زر). يصعد الخطيب على المنبر ويتوهم أن كل من سمع كلامه، هو لا شك سيتغير بمجرد انتهاء خطبته، فالأمر سهل عنده مجرد (كبسة زر). يثور الرجل على زوجته إذا كررت فعلا حذرها منه أكثر من مرة.. وقد تربت وتعودت عليه عند أهلها عشرين عاما فيريدها أن تنخلع منه ب(كبسة زر). ويغضب الأب جدا إذا نهى ابنه عن سلوك ثم كرر ابنه السلوك ذاته وكأن تغيير العادات تكون ب(كبسة زر). ليس هناك مهنة على وجه الأرض تحتاج إلى صبر حتى تؤتي ثمارها مثل مهنة التعليم وبناء الإنسان. إن أفضل استثمار على وجه الأرض هو الاستثمار في الإنسان وعقله، وكما أن أهم عامل لإنجاح منظومة التعليم هو المعلم، وما لديه من إمكانيات، فالطالب بين يدي معلم قوي يستطيع أن يحصل على ثلاثة أضعاف العلم مقارنة بمعلم ضعيف، فما بالكم بمعلم قوي وبيئة مدرسية قوية! بالعلم نبني حضارة وإنسانية ونستعيد مجدا ونرتقي بأمة). انتهت كلمات الرسالة التي تنهل من قلب الواقع المريض علميا وتعليميا. أرأيتم شفرة الرسالة الكامنة في جملة (كبسة زر) إنها تشخص بجلاء جوهر المأساة. وأناظر ما يجري في الواقع العربي المهين بكلمة ل(لي كوان مؤسس سنغافورة) إذ يقول: «أنا لم أقم بمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي نحو وطني، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين من طبقة بائسة إلى أرقى طبقة في سنغافورة، فالمعلم هو من صنع المعجزة، هو من أنتج جيلا متواضعا، يحب العلم والأخلاق، بعد أن كنا شعبا يبصق ويشتم بعضه في الشوارع». وفي هذا السياق.. أستدعي موقفا له دلالاته حين سأل أحد الصحفيين إمبراطور اليابان (أوكيهيتوا يوهارا) عن سبب تقدم اليابان في هذا الوقت القصير فأجاب: (اتخذنا الكتاب صديقا بدلا من السلاح.. وجعلنا العلم والأخلاق قوتنا.. وأعطينا المعلم راتب وزير وحصانة دبلوماسي، وجلالة إمبراطور). إذا أردت أن تحكم على بلد من البلاد أو تقيم مدى تحضره فانظر إلى نظام تعليمه.. ترى.. متى نفيق من غيبوبتنا؟!