منذ البداية, ينبغي أن نسجل أنه في الإسلام التربية والتعليم متلازمان تلازما وثيقا, لأن تعليما بلا تربية لا فائدة منه ولا ثمرة له, وتربية من غير تعليم لا تتحقق علي وجهها المطلوب , وإذا كان التعليم تلقينا وحشدا للمعلومات في الذهن, فإن التربية توجيه لهذه المعلومات وتدريب عليها.. ولذلك نقول: التربية والتعليم صنوان لا يفترقان, أو أنهما وجهان لعملة واحدة.. إلي درجة أنه إذا جري الحديث عن التربية, فإنه ينصرف تلقائيا إلي التعليم, فلا غني لأحدهما عن الآخر, وحتي ما استحدثته النظريات المعاصرة عن التنويه بأسبقية التربية علي التعليم, تنبه إليه الإسلام من قبل, منذ مئات السنين, فكان يعد طالب العلم إعدادا تربويا مرتبطا بالعقيدة ليصقله صقلا علميا. ذلك أن غاية الإسلام في الحياة التعليمية كما يري رجل علم ودين كالراحل الدكتور أحمد الشرباصي أن يصوغ من المسلم شكلا جديدا يجعله إنسانا ربانيا, يربي نفسه بالعلم والخلق.. متفقا في ذلك مع قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين قال: أنا رباني هذه الأمة, وهذا التعبير يفيد كثرة العلم, وحسن الانتفاع به في تربية النفس وتأديبها, ووصل أسبابها بالقيم والفضائل حتي يتحقق هدف الإسلام من التربية والتعليم, وهو بناء المسلم الصالح الذي يستطيع بعلمه وخلقه أن يتجاوز حدود الزمان والمكان, متسلحا بعقيدة راسخة تذكره أنه لا علم بلا عمل, ولا عمل بلا أخلاق. والإسلام في حرصه علي بناء دولته لم يفرق بين الذكور والإناث, فقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة, ولعل حرص النبي علي هذه المساواة في الانتفاع من التعليم يؤكد اهتمامه صلي الله عليه وسلم بتعليم المسلمات إيمانا بأنهن يمثلن نصف المجتمع, ولا يليق أن يخيم الجهل علي هذا النصف من المجتمع. وما أعظم اهتمام الإسلام بالعلم والتعليم حين يستهل أول آيات كتابه بهذه الآيات الخمس من قوله تعالي:( إقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم).. ويقدم بذلك الأساس الذي تقوم عليه العملية التعليمية وهو المعلم, والمتعلم, والعلم, ووسيلته القراءة, وأداته القلم. والتاريخ يحدثنا عن أن الإسلام قد عني عناية مبكرة بالتربية والتعليم في عصر النبوة وما تلاه من عصور الراشدين والأمويين والعباسيين, وليست مصادفة أن تكون رسالة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلي ولاة المسلمين في الأمصار:.. علموا أولادكم السباحة والفروسية ورووهم ما سار من المثل, وما حسن من الشعر, إشارة إلي الاهتمام ببناء عقول النشء, مع أجسامهم علي اعتبار أنهم, وهم الأقوياء بعقولهم وأجسامهم هم بناة المستقبل. وباتساع أمصار الدولة الإسلامية تبدأ نهضة تعليمية نواتها, علوم قرآن والحديث, ثم استنباط الأحكام الفكرية والفتاوي الشرعية, إلي الاهتمام بالطب والفلسفة والرياضيات. هذا الاتساع الذي صاحبه اتساع آخر في مناهج التربية والتعليم دعا الإسلام إلي تنظيم العملية التعليمية, حيث خرجت من نطاق البيت إلي مجالات أخري كالكتاتيب والمدارس والمساجد, وأصبح لهذه التربية الإسلامية فلسفة مؤداها أنها لا تعلم التواكل بل التوكل, ولا تنصح بالاستسلام بل بالتسليم, ولا تأمر بالفرقة بل بالتعاون, ولا تؤدي إلي الأثرة بل تفضي إلي الإيثار, وأصبح لها جهاز اجتماعي يعبر عن روح هذه الفلسفة الإسلامية من جهة, ويقوم بتطبيقها علي أرض الواقع من جهة أخري, وأن يقوم هذا الجهاز الاجتماعي علي أساس منهجي من شأنه تحقيق مبادئ ترتقي بالعملية التعليمية, ومنها الاهتمام بالحرية والتطور وتكافؤ الفرص, والاستعداد الفردي وهو ما يمكن تبينه في رسالة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني عن القابسي, أحد علماء التربية الإسلامية, حيث يمكن تحقيق مبدأ الحرية في التربية والتعليم, وذلك بالأخذ بما يلائم عقلية الطفل في مرحلته الأولي في الكتاتيب, ثم التدرج معه حين ينتقل إلي المدارس, حتي تكاد تكون هذه الحرية مطلقة في المساجد, حيث كانت في الإسلام أماكن عبادة ومراكز للتعليم, والجامع الأزهر خير مثال علي ذلك. أما تكافؤ الفرص في التعليم, وهو المبدأ الذي ينادي به علماء التربية والتعليم.. هو مبدأ قديم قدم الإسلام.. فالإسلام في جوهره ديمقراطي لا يعرف نظام الطبقات, والناس فيه سواسية كأسنان المشط, لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي, وحيث كان جميع المسلمين مكلفين بمعرفة أمر دينهم, فقد وجب تعليمهم, ونشأ عن ذلك الإلزام بالتعليم, فلا يحرم الإسلام منه أحدا لفقره, والحلقات بالمساجد تتسع لكل طالب علم, ولذلك استحدث الإسلام نظاما شجع في حينه علي التعليم برفع كثير من الأعباء, عن المسلمين, وهو نظام الوقف الذي من ريعه ينفق علي المؤسسات التعليمية, وظل هذا النظام معمولا به إلي أن أصبح التعليم مرفقا من مرافق الدولة. وقد لا يتم حديث عن التربية والتعليم إلا إذا شمل المعلم, وفي ذلك نرجع إلي كتاب تاريخ التربية والتعليم, لكل من الدكتور سعد مرسي أحمد, والدكتور سعيد إسماعيل علي, لنشير إلي الاتجاهات التي اتبعها المسلمون فيما يخص المعلمين, حيث ساد الاعتقاد بأن خير العلم ما جاء عن طريق المعلم والاحتكاك به.. ولقد أدرك العرب المسلمون ضرورة دراسة المعلم لأصول مهنته, وهو ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته حين أوضح أن التعليم صناعة تحتاج إلي دراية وتدريب ومعرفة وتصريف سليم. والمعلمون في صدر الإسلام كانوا يؤدون أعمالهم بدون أجر طلبا للثواب, إلي أن أنشئ بيت الحكمة في العصر العباسي, فعينوا فيه علماء خصصت لهم أجور, وبلغ هذا التدخل مداه عندما أنشئ الأزهر في العصر الفاطمي, فقرر للمعلم راتبا. وصفوة القول إن التربية التعليم في ظل الإسلام, تطبع شخصية المسلم بطابع خاص يميزه عن أي لون من ألوان التربية والتعليم الأخري, ونتيجة لذلك يتقارب المسلم في البوسنة والهرسك مع المسلم الإندونيسي مع المسلم المصري, برغم ابتعاد المسافات, واختلاف اللغات, والسبب رجوع التربية والتعليم في مناهجها إلي منبع واحد هو كتاب الله عز وجل.