منذ قديم الزمن كان الأزهر يهتم بالكتاتيب ويعرف قيمتها فيدعمها ماديا ومعنويا ويشرف عليها.. فكان للكتاب دور حيوي في التواصل مع الأزهر وإمداده بالطلاب الحافظين لكتاب الله، فلم يكن الالتحاق بالأزهر مرتبطا بسن.. ولكن بقدر ما يحفظ الطالب من القرآن. مما ساهم في تخريج علماء ودعاة وفقهاء وقادة في كافة المجالات.. ولكن عندما تراجع دور الأزهر في دعمه لهذه الكتاتيب.. أثر ذلك علي مستوي طلابه.. وأصبح الكتاب صعب المنال.. فاقتصر وجوده علي القري والنجوع.. وحتي نتعرف عن قرب علي هذا العالم المليء بالأسرار والحكايات قررنا أن نغوص في أعماق الكتاتيب فذهبنا في جولة ميدانية إلي قرية جزيرة الحجر بمحافظة المنوفية.. اكتشفنا خلالها أن الكتاتيب تعاني الإهمال والنسيان بعد تخلي الأزهر عن دوره تجاهها.. واقتصر علي إقامة مسابقة سنوية ومنح تراخيص الكتاتيب وإشراف رمزي عليها.. مع أن هذه الكتاتيب ليست لتعليم القرآن فحسب.. بل هي المدرسة التي تخرج الرجال والعلماء في كافة المجالات.. المدرسة التي تغرس فيهم القيم والأخلاق, والتي تعلم الدين وتحفظ الهوية, وتحميهم من الانحراف والانحلال.. وهي أيضا المدرسة التي تفرز الوسطية والاعتدال.. ومعني ذلك أن الكتاتيب سبيل قوي للنهوض بالمجتمع والقضاء علي الأمية.. ولكننا بكل أسف اكتشفنا أن الكتاب صار حلما بعد أن أصبح غير مجد اقتصاديا للقائمين عليه نتيجة توقف دعم الأزهر وأضحت عودة الدعم لهذه الكتاتيب ضرورة يفرضها الواقع حتي تستعيد مكانتها وتؤدي رسالتها.. لو قام الأزهر بإنشاء مثل هذه الكتاتيب وتولي الإشراف عليها سيسهم ذلك في حفظ الدين وحفظ القرآن الكريم.. وهذه مسئوليته.. وحيث أن التعليم الأزهر محل إهتمام فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب.. فكلنا أمل في أن تستعيد الكتاتيب علي يده دورها ومكانتها وأن يخصص لها من الدعم مايعينها علي آداء رسالتها. تراجع وانسحاب! في قرية جزيرة الحجر بمحافظة المنوفية.. تلك القرية الصغيرة في مساحتها القليلة في عدد سكانها.. ولكنها غنية بأبنائها الذين يحملون القرآن في صدورهم.. كبيرة بكتاتيبها التي تشع نورا يملأ أرجاء القرية.. تلك الكتاتيب التي ينبعث منها صوت كأزيز النحل.. في هذه القرية التقينا الشيخ مهدي محمد رمضان إمام وخطيب بالأوقاف وصاحب أقدم كتاب تابع للأوقاف بالقرية حيث يعمل منذ عام1956 الذي توارثه عن والده وقال: بالرغم من قلة عدد سكان القرية الذي لا يتجاوز22 ألف مواطن إلا أنها تضم14 كتابا حيث يحرص معظم أبناء القرية علي الالتحاق بالكتاب ليتعلموا فيه في المقام الأول كيف يتلون كتاب الله حق تلاوته ويتعلموا المبادئ والأخلاق وكيف يحترمون العالم ويجلونه ويقدرون له علمه ومكانته.. ويضيف: عمل الكتاب لا يجزي ماديا فالطفل يدفع خمسة جنيهات شهريا فقط إضافة إلي أن عددا كبيرا من الأطفال لا يدفعون إما بسبب القرابة أو لعدم المقدرة.. وتقوم وزارة الأوقاف بدعم الكتاب بمبلغ70 جنيها شهريا فقط وهذا مبلغ زهيد في ظل غلاء الأسعار.. والسبب الذي يجعلني أحافظ علي استمرار الكتاب وصية أبي بالمحافظة عليه.. كما أن الله يعطينا الأجر بالبركة في أولادنا. ويضيف: طالب الأزهر الذي التحق بالكتاب يختلف عن نظيره الذي لم يلتحق به.. فالكتاب يجعل منه طالبا متفوقا في اللغة العربية ويتمتع بخط جيد.. كما أنه يكون متقنا لحفظ القرآن.. فالكتاتيب تعتمد علي منهج التلقين والشفاهية والترديد فهكذا أنزل القرآن وهكذا توارثته الأمة جيلا بعد جيل.. وهذا الأسلوب يساعد علي سرعة الحفظ والاستيعاب كما أنه يقوم لسان الطفل ويقوي مخارج الحروف ويجعله ينطق لغة عربية صحيحة.. ويكون لديه قدرة كبيرة علي استيعاب كل المواد.. لأن القرآن يوسع إدراكه. وأوضح أن الكتاب في الوقت الحالي يختلف عنه في الماضي.. ففي الماضي كان الكتاب مقدما علي كل شيء.. أما الآن فقد تراجع دوره وانزوي وانسحب من ريادة العلم وصناعة العلماء.. بل وأثر وجود الحضانات والمدارس عليه.. إضافة إلي أن عدد الذين يحفظون القرآن كاملا كل عام قليل جدا بالمقارنة بالماضي. عودة الدعم ..واتفق معه الشيخ محمد حسن سيد صاحب أحد الكتاتيب المرخصة من الأزهر الشريف علي أن الكتاب لا يجدي اقتصاديا وقال: في الماضي كان محفظ القرآن بالكتاب يحصل إعانة مالية من الأزهر الشريف قدرها80 جنيها شهريا تشجيعا له علي الاستمرار في عمل الكتاب.. ولكن تم إلغاؤها منذ حوالي عدة سنوات. وأشار إلي أن النظام القديم لمسابقة الأزهر كان يشجع الطلاب علي حفظ القرآن حيث كان يسمح للطفل الحافظ لثلاثة أجزاء من القرآن بالمشاركة في المسابقة.. ويمنح الطفل أربعة جنيهات عن كل جزء يحفظه.. ويحصل المحفظ علي نفس المبلغ الذي يحصل عليه الطفل.. ورغم ضعف المقابل المادي الذي يحصل عليه الطفل إلا أنه يعتبر جائزة معنوية أكثر منها مادية.. فعدد المشتركين في المسابقة كان يتجاوز ال500 طفل.. وهذا اليوم كان بمثابة عيد للأطفال لأنهم سيشاركون في مسابقة الأزهر.. وهذه المشاركة كان لها أثرها الكبير في نفوس الأطفال وكان حافزا لهم علي الاستمرار في حفظ القرآن.. أما المسابقة بشكلها الحالي وبرغم زيادة قيمة جوائزها المالية إلي20 مليون جنيه يحصل الفائز في القرآن كاملا علي ألف جنيه وكذلك المحفظ إلا أنها لا تسمح بتوسيع نسبة المشاركة لاقتصارها علي الأطفال الحافظين علي18 جزءا من القرآن فأكثر.. وهذا النظام قد يكون في مصلحة المحفظ ولكنه ليس في صالح توسيع دائرة المشاركة.. فمن الصعب أن يقوم الكتاب كل عام بتخريج عدد كبير من الطلاب الحافظين لكتاب الله بسبب انشغالهم بالمدارس, كما أن الطالب الذي يحصل علي جائزة في مسابقة ال18 جزءا لا يحق له الاشتراك في مسابقة القرآن كاملا. الإعلام أساء إليه عندما نتحدث عن الكتاب فإن الصورة الراسخة في أذهان كثير من الناس هي صورة( سيدنا).. ذلك الشيخ المهرج كثير الأكل والذي لا يهتم بشيء سوي بطنه.. العابس الوجه غليظ القول الذي لا يعرف للسماحة منهجا ولا للبشاشة أسلوبا.. ذلك الشيخ الذي يحمل العصا ليضرب بها الأطفال.. ولكن هذه الصورة مغايرة للواقع.. هذا ما أكده الشيخ عماد مالك إمام وخطيب بالأوقاف وصاحب أحد الكتاتيب الذي قال: في الماضي كان الكتاب هو المدرسة التي تخرج الرجال والعلماء في كل المجالات.. ولم يكن دوره يقتصر علي تحفيظ الأطفال القرآن الكريم فقط..بل يربي الأطفال تربية إسلامية صحيحة.. فالطفل الذي ينشأ علي حفظ القرآن وعلي قيم الإسلام السمحة.. من الصعب أن يقع فريسة للتطرف والإرهاب لأنه تم تأسيسه تأسيسا سليما.. فالكتاب غرس فيه العقيدة الإسلامية الصحيحة منذ الصغر.. والتعليم في الصغر كالنقش علي الحجر يظل أثره مع الإنسان حتي الممات.. ولكن عندما تخلينا عن الكتاب لم يجد الأطفال من يغرز فيهم هذه القيم وجرفهم التيار وانحرفت الأخلاق وضاعت القيم وأصبحوا عرضة للإرهاب.. ويجب علي القادرين أن يدعموا بأموالهم تحفيظ القرآن وأن يدعموا هؤلاء العلماء وأن يوقفوا المال لهم حتي يستطيعوا أداء واجبهم وحتي يتفرغوا لذلك العمل العظيم. وأشار إلي أن الإعلام هو سبب الصورة المغلوطة عن الكتاب.. ويجب أن يصحح المجتمع هذه الصورة بأن ينظروا إلي معلم القرآن نظرة إعزاز وإجلال فيكرموه من خلال وسائل الإعلام والصحف.. ويقدم في كل المجالات ويعلو فوق كل الهامات.. فمعلمو القرآن نجوم يهتدي بهم العباد.. وهم أفضل الناس علي الإطلاق كما بين رسول الله صلي الله عليه وسلم:( خيركم من تعلم القرآن وعلمه).. ويجب أن يعلم الناس أن أعظم إنسان هو من يحمل كتاب الله بين جنبيه ويعمل به ويعلمه للأجيال من بعده. .. وللمحفظ شروط حتي يستطيع الكتاب أن يقوم بدوره فهناك مواصفات يجب أن تتوافر في محفظ القرآن بالكتاب.. هذا ما سنعرفه من الشيخ محمد عمر سعد إمام وخطيب بالأوقاف وصاحب أحد الكتاتيب الذي قال: يجب أن يكون محفظ القرآن متقنا لكتاب الله عز وجل وعلي دراية كاملة بأحكامه فيعرف مخارج الحروف وصفاتها ومجودا في قراءته وعلي علم بأسباب النزول ومعاني الكلمات. وأيضا ينبغي أن يكون معلم القرآن حسن الخلق.. فيري منه القرآن عملا وسلوكا وواقعا بين الناس حتي ينظر إليه الناس نظرة إجلال وإعزاز وحتي يرضي عنه ربه عز وجل.. فالمعلم لا يحفظ الأطفال القرآن فحسب ولكنه يربيهم ويعلمهم الدين والأخلاق وفاقد الشيء لا يعطيه.. كما أنه قدوة للأطفال فيؤثر في سلوكهم.. وبحسن خلق المعلم يجعل الأطفال يحبونه ويعملون بقوله ويمتثلون لأمره.. أما إذا كان سييء الخلق فسيبغضه الأطفال ويكرهونه ولا يسمعون لما يقول ولن يستطيعوا أن يحفظوا القرآن وسيتركوا الكتاب. ومن شروط المحفظ.. التحلي بالصبر والحلم فالمعلم إذا لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح.. فهو يتعامل مع أطفال صغار لابد أن تصدر منهم الأخطاء والمخالفات فلابد أن يصبر ولا يضيق صدره ويوجه بشكل سليم.. فترديد الآيات مع الأطفال وتقويم ألسنتهم يحتاج إلي صبر.. وتهذيب أخلاقهم يحتاج إلي الحلم والرفق.. وأيضا لابد أن يجمع المعلم بين الترغيب والترهيب.. فالطفل لا يدرك معني العلم ومعني الاحترام إلا بقدر ما يرغبه أستاذه أو يرهبه من ذلك.. وبعض الأطفال يحتاج إلي تشجيع والبعض الآخر يحتاج إلي التخويف.. ولابد أن يدرك المعلم أن أسلوب الإثابة أفضل وأبقي أثرا من أسلوب العقاب.. فإذا اجتهد الطالب يجب أن يثني عليه المعلم ويشكره ويمنحه جائزة علي اجتهاده.. فالطفل يفرح بمن يثني عليه ويكافئه ويمنحه الجوائز والهدايا.. وللأسف بعض محفظي القرآن لا يدركون إلا سياسة التخويف والتقريع وهذه السياسة لا تجدي إلا في أحوال ضيقة. وأخيرا ينبغي لمعلم القرآن أن يخلص لله في تعليمه.. فأثر المعلم في طلابه علي قدر إخلاصه لله عز وجل. تقضي علي الأمية قد يتخيل البعض أن مهمة الكتاب عادية أو بالأمر اليسير أو أنها سويعات يلهو فيها الطفل حتي يعود والده من العمل غير أن الواقع بلا شك خلاف ذلك ونقيضه بالكلية.. فالكتاب مدرسة حقيقية للتربية والتعليم.. وهو نواة للقيم والسلوك الرشيد لو لم يتم غرسها في المهد لشق علي كثير من الأسر استدراك ذلك مستقبلا.. ولكي نلمس ذلك بأيدينا نتجول في أحد الكتاتيب لنري برنامج يوم كامل لطفل الكتاب منذ الصباح حتي عودته إلي أسرته وكيف يحفظ القرآن هذا ما سنتعرف عليه من الشيخ محمد عبد الله الآلاتي وكيل بمعهد أزهري وصاحب أحد الكتاتيب المرخصة من الأزهر الشريف الذي قال: يبدأ الطفل يومه في الكتاب من السابعة صباحا وفي الغالب يحضر بدون إفطار حتي يكون ذهنه صافيا ولديه قدرة عالية علي الحفظ.. والأطفال أقل من خمس سنوات لا نكلفهم بأي واجبات ونكتفي بتحفيظهم عن طريق الترديد لأن التكليف في هذه السن يؤثر نفسيا عليهم.. أما الأطفال الذين يبلغون من العمر خمس سنوات فنبدأ في تعليمهم القراءة والكتابة وبعض أحكام التجويد وبعد أن يتقن القراءة والكتابة يكون له برنامج خاص.. فعندما يحضر للكتاب في الصباح يقوم الشيخ بقراءة اللوح الخاص به عدد السطور من المصحف المقرر حفظها ليتعلم الطفل النطق السليم فهكذا أنزل القرآن ثم يقوم الطفل بإعادة قراءتها علي الشيخ منفردا فإن أتقن التلاوة كان الحفظ سهلا.. بعدها يجلس لمدة ساعتين لحفظ هذا اللوح ثم يقوم بتسميعه علي الشيخ ثم يقوم بكتابته مرتين بالتشكيل لتأكد الحفظ.. وبعدها يأخذ الطفل راحة لمدة نصف ساعة يذهب فيها للمنزل لإحضار طعام الإفطار وبعد العودة للكتاب يقوم بمراجعة ما يحفظه من القرآن من أجل تثبيته وترسيخه في ذهنه وهذا مفهوم حديث النبي صلي الله عليه وسلم:( تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها).. وبعد ذلك يقوم جميع الأطفال بالمراجعة بصورة جماعية من خلال الترديد.. وأوضح أن الكتاب يقوم بتخصيص بعض الوقت لتهذيب سلوك الأطفال وتعليمهم الأخلاق وفضل القرآن والأهداف التي من أجلها نزل.. كما أن الكتاب يزرع في قلوبهم الحب والتعاون فيسع بعضهم البعض.. وفي الواحدة ظهرا يعود الطفل للبيت فيراجع ما حفظه ويكتبه مرتين.. وبعدها يكون قد أتقن ما حفظه من القرآن ومن الصعب أن ينساه.. والطفل الذي يواظب علي حضور الكتاب يمكنه أن يحفظ القرآن في عامين.. كما أن الكتاب يمكن أن يقضي علي الأمية بين الناس.