المهتمون بالأضواء والضجيج والأرقام وأسعار صرف العملات يفوتهم الكثير. يفوتهم حتى البديهات، تفوتهم المسارات، سبل النمو والنضج والتحول، الأهداف الأسمى وطرق تحقيقها. فى قصة جائزة "مان بوكر" الدولية (Man Booker International Prize) مثال بالغ الوضوح: بداية تبدو خجولة، متواضعة، تبدو على مقاس "محلى" وليس "إمبراطورى"، يمكننا أن نصيغ البداية بصورة مفارقة هكذا: بعد نحو عشر سنوات من بداية توزيع جوائز الدول التشجيعية والتقديرية فى مصر بدأت جائزة "مان بوكر" فى عام 1968، لمكافأة أفضل رواية مكتوبة باللغة الإنجليزية ونشرها في المملكة المتحدة. لكنها -هنا نغادر الأضواء والضجيج- تبدأ العمل بعد ذلك، الجائزة بداية العمل الحقيقى، فالهدف مكافأة المتميز بترويج منتجه، وكيف يكون الترويج؟ يكون من خلال عدة خطط ومبادرات ومشاريع مختلفة تعمل على تعزيز مكانة الأدب بتشجيع قراءة الروايات المعاصرة، فهناك برامج خاصة بالمكتبات العامة ومكتبات المدارس، حيث تزود بنسخ من الروايات الفائزة، وفى البرنامج الخاص بالجامعات يتطور الأمر فليس المطلوب فقط أن يقرأ الطالب الجامعى، بل أن يتدرب على البحث والتذوق وتنمية الأدوات النقدية واللغوية، فبعد أن تزود الجامعات بنسخ من الروايات الفائزة، تعقد حلقات قراءة وندوات وحلقات بحث ونقاش يدعى إليها المؤلف، فى عام 2009 بدأت هذه المبادرة وجرت زيارات عديدة للمؤلفين الفائزين بالجائزة. كما تقوم مؤسسة "جائزة بوكر" بتنفيذ أنشطة مهمة تربط بين الترويج لفن الأدب وتحسين مهارات القراءة والكتابة. فقد تعاونت مع الأمانة الوطنية لمحو الأمية (NLT) في مشروعين رئيسيين: ساهمت فى أولهما بمبلغ 150،000 جنيه إسترليني خلال الفترة من 2012 إلى 2014 لتمكين NLT من إنشاء أول "محور عمل محو الأمية" فى منطقة ميدلزبرة -شمال شرق إنجلترا- التى تعتبر مستويات معرفة القراءة والكتابة والطلب على مهارات القراءة والكتابة بين سكانها من بين أدنى المعدلات فى المملكة المتحدة، ويهدف المشروع إلى تشجيع القراءة وزيادة الوصول إلى الكتب وتشمل الأنشطة التى يتضمنها "المشروع" مشاركة مؤلفين مرتبطين بجائزة مان بوكر في برامج قراءة المجتمع والمكتبة العامة. وخلال السنوات الثلاث استطاع "المشروع" بمختلف برامجه الوصول إلى أكثر من 310،000 شخص. المشروع الثانى المستمر الذي تتعهد مؤسسة "جائزة بوكر" به مع الأمانة الوطنية لمحو الأمية (NLT يُعرف باسم "الكتب المفتوحة". وقد بدأت بتمويله في عام 2012، وهو يتضمن القراءة في السجون بالتزامن مع ما تتيحه مكتبات السجون. وركز "المشروع" على الروايات من القوائم المختصرة لجائزة مان بوكر، وقد أقام "المشروع" علاقة مع راديو السجن الوطني فتمكن السجناء في جميع أنحاء المملكة المتحدة من سماع وقراءة الروايات المعاصرة البارزة، والهدف هو تشجيع المزيد من المشاركة مع الأدب، وزيادة الوعي بأهمية محو الأمية، وتحسين احترام الذات، والتعاطف، وتعزيز الإحساس بالاندماج الاجتماعي. ثم هناك التوجه نحو ضعاف البصر، حيث تعتقد "المؤسسة" أن الإعاقة البصرية لا ينبغي أن تكون حاجزًا إما للاستمتاع بالخيال المعاصر من أعلى المستويات أو الانضمام في المناقشات والمناقشات التي تحيط بجائزة "مان بوكر" للسنة. لذا فإن التبرع السنوي من قبل المؤسسة يمكّن المعهد الوطني الملكي للمكفوفين (RNIB) من إنتاج طريقة برايل ، وطباعة ضخمة، وكتب Talking "الكتاب الصوتى" المختارة من القائمة القصيرة الفائزة كل سنة. ومن البرامج المهمة التى تعمل عليها مؤسسة "جائزة مان بوكر" برامج حفظ حياة المؤلفين في الأرشيف الصوتي للمكتبة البريطانية، وهذا الأرشيف يتضمن حفظ وأرشفة تسجيلات لمقابلات مسجلة للمؤلفين الفائزين بالجائزة للحديث عن حياتهم، وأدبهم، هذا طبعا إضافة إلى حفظ وأرشفة الإنتاج الأدبى لهم. ويبقى جانب هام من نشاط المؤسسة، وهو الجوائز والأنشطة الأخرى، حيث تعمل على دعم جوائز أدبية غير جوائز Man Booker الخاصة بها. فقد قدمت إرشادات في إعداد وتطوير الجائزة الدولية للرواية العربية ، كما تقدم الدعم المالي لجائزة Caine المشهود لها دوليًا للكتابة الأفريقية. هذه المشاريع المتنوعة نمت تدريجيا، بينما ظل الجزء الأبرز إعلاميا من جائزة "مان بوكر" منذ بدايتها في عام 1969 إلى عام 2004 هو مكافأة وترويج الروايات المكتوبة بالإنجليزية أساسا فى المملكة المتحدة، وتدريجيا توسعت حتى أضحت تشمل دول الكومنولث، لكنها أصبحت برصيدها من الأسماء الكبرى التى نالتها تضيق عن نطاقها "الإمبراطورى"، فكان أن تحولت إلى "دولية" تمنح للروايات المترجمة إلى الإنجليزية أيا كانت لغتها الأصلية. وبدأت من 2005 تمنح مرة كل سنتين، ومن 2015، أصبحت سنوية، وهكذا بات فى أرشيف جائزة "مان بوكير"الدولية ثمانية فائزين: إسماعيل كاداريه (ألبانيا)، تشينوا أتشيبي (نيجيريا)، آليس مونرو (كندا)، فيليب روث (الولاياتالمتحدة)، ليديا ديفيس (الولاياتالمتحدة)، لاسلو كراسنا هوركاي (هنغاريا)، هان كانج (كوريا الجنوبية)، ديفيد غروسمان (إسرائيل). وها هى البولندية أولجا توكارتشوك تصبح تاسعة المتوجين ب "مان بوكر" الدولية.