بيان نمطي من وزارة الخارجية، وقرار بحجب موقع المنظمة الأمريكية... كان هذا هو رد الحكومة المصرية على التقرير الأخير لهيومان رايتس ووتش، الذي جاء تحت عنوان "التعذيب والأمن الوطني في مصر تحت حكم السيسي"، وكلا الإجراءين لم يخرجا عن معطيات التفكير والفعل داخل ذات الصندوق العتيق المغلق الذي تصر أجهزة الدولة المصرية على التقيد بحدوده وعدم التصرف خارجه. بالتوازي ومنذ صدوره حتى الآن مثل التقرير فرصة للنخب الحقوقية والسياسية -سواء المعارضة للنظام على طول الخط، أو تلك المؤيدة له إلى حد التطبيل- لكي يثبت كل فصيل منهم "الولاء" لمعسكره و"البراء" من معسكر الخصوم حتى ولو على جثة الحقيقة، ومن ثم فقد انتشرت المقالات والمشاركات والتصريحات التي تمجد كل حرف في التقرير، كأنه رسالة السماء التي لا يأتيها الباطل، في مقابل المقالات والمشاركات والتصريحات التي "تهيل التراب" وتكيل الاتهامات وتستحضر حديث المؤامرة الكونية. وبالطبع كلتا القراءتين للتقرير محملة بالمصالح والمواقف السياسية لكل فصيل، لذا فلم يكن مستغربا أن يكون المنتج إما غارقا في "المكايدة" أو مغموسا في "التزلف"، وما بين الشاربين من نهري جنون "المكايدة" و"التزلف" غابت المناقشة الهادئة لمضمون التقرير والتحليل الأمين لمنهجيته، وهو ما سيحاول كاتب السطور تداركه هنا. بداية يجب أن نشير إلى أن تقرير هيومان رايتس ووتش الحالي وكل تقاريرها عن مصر تنطلق من "فرضية" مناقضة تماما للفرضية التي تتبناها الحركة الحقوقية المصرية، بما فيها المنظمات والنخب التي تحمل موقفا معارضا للنظام وتحتفي بالتقرير الأخير، وتتمثل هذه الفرضية في النظر إلى 30 يونيو 2013 بوصفها انقلابا عسكريا أطاح من خلاله الجيش بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وهو ما يتصادم بشكل فج مع حقيقة الأشياء ومنطقها، الذي يقول إن هناك فعلا شعبيا احتجاجيا حاشدا تمثل في ملايين المصريين الذين ملؤوا الشوارع والميادين رافضين استمرار حكم الإخوان، وقوى ونخب وطنية وسياسية كانت متصدرة للمشهد المطالب بإسقاط حكم الجماعة الدينية، أما الجيش فلم يكن غير المؤسسة التي كان عليها –من منظور المسئولية التاريخية ومعطيات الواقع– أن تنحاز للمطالب الشعبية، وهو ما كان بالفعل. تكمن خطورة هذا الافتراض الأولى الذي تتبناه المنظمة الدولية في أنه يدفعها دائما "لتصديق" رواية جماعة الإخوان والمنتسبين إليها بغض النظر عن مدى صحة الرواية، وهو ما تورطت فيه المنظمة في تقريرها الأخير، حيث اعتمدت بشكل كبير على شهادات قالت إنها جمعتها من 19 محتجزا سابقا، فضلا عن شخصين من أسرة محتجز آخر، ويبدو من سياق المعلومات أن الأشخاص الذين التقاهم باحثو المنظمة قريبون من الجماعة، أو على الأقل كانت هذه تهمتهم الرئيسية، ومن ثم فإن الشهادات تبدو مجروحة إلى حد بعيد، ولا يمكن التعويل عليها منفردة في تقرير يتناول جريمة خطيرة كجريمة التعذيب. ليس معنى ذلك بالطبع أن هذه الجريمة لا تمارس في مصر، فهناك دلائل وشواهد على أن ممارسات التعذيب ما زالت قائمة، والبيئة التشريعية الحالية لا توفر ضمانة كافية لمنعه، وحتى مع التسليم بأن الممارسات أقل بكثير مما كان سائدا قبل 25 يناير 2011، وبأن هناك توسعا ملحوظا في تقديم مرتكبي هذه الجريمة للمحاكمة وصدور أحكام مشددة ضد بعضهم، إلا أن الممارسة ذاتها ما زالت موجودة وتتطلب إجراءات أكثر عمقا وشمولا للتخلص منها تماما. نعود إلى منهجية التقرير وبنيته، فبالاستمرار في تصفح التقرير ستجد أنه يخلو تماما من ذكر الوقائع التي تم فيها محاسبة منتسبين لجهاز الشرطة على خلفية قيامهم بالتعذيب، وهي حالات متعددة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ورغم بطء إجراءات التقاضي واستئناف بعض القضايا وتخفيف الأحكام في مراحل لاحقة، فإنها تبقى ملمحا مهما يجب سرده من باب الأمانة والموضوعية عند تناول قضية خطيرة وحساسة كقضية التعذيب وسوء المعاملة في أماكن الاحتجاز، خاصة أنها ممارسة لم تكن شائعة على الإطلاق قبل 25 يناير 2011. من النقاط التي يتوافق فيها التقرير مع طرح كل المتابعين المحايدين للشأن الحقوقي في مصر هي استعراضه "ضعف الإطار التشريعي" المتعلق بمناهضة التعذيب، خاصة على مستوى قانون العقوبات وتعريف جريمة التعذيب الوارد في المادة 126، وهو تعريف مخالف لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية التي صدقت عليها مصر بالفعل، وكذلك قانون الإجراءات الجنائية، وبشكل عام فإن المطالبة بتعديل القوانين المنظمة لتتوافق مع الضمانات الدستورية القوية ومع الالتزامات الدولية ذات الصلة هو مطلب متكرر ودائم من الحقوقيين المصريين منذ أواخر الثمانينيات حتى الآن، ولم تأت فيه هيومان رايتس ووتش بجديد. تضمن التقرير أيضا مجموعة من التوصيات العامة لكل من رئيس الجمهورية والنائب العام ووزير الداخلية، وهي توصيات لا حرج إطلاقا في دراستها والأخذ بها، خاصة أنها لا تختلف كثيرا عن التوصيات التي أوردتها المنظمات الحقوقية المصرية في كثير من تقاريرها ومناشدتها للسلطات المعنية، كما لا تختلف حتى عن توصيات سابقة للمجلس القومي لحقوق الإنسان ذاته. من وجهة نظر كاتب هذه السطور، تبدو أكثر نقاط الضعف التي تجعل هذا التقرير على "المحك" هي الملابسات المحيطة بصدوره، و"انتقائية" المنظمة الدولية في مناقشتها لقضايا الحقوق والحريات في بلدان ومناطق مختلفة، ف"هيومان رايتس ووتش" تبدو مواقفها أحيانا "متماهية" مع مواقف السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما يعد موضع انتقاد دائم من شخصيات حقوقية عامة للمنظمة العريقة خلال السنوات الماضية، وربما لو تم مقارنة عدد إصدارات وإفادات المنظمة التي تنتقد فيها الوضع الحقوقي في مصر خلال السنوات الثلاث الماضية فقط، بعدد إصداراتها وإفاداتها التي تتناول فيها جرائم الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية على سبيل المثال، وهي الجرائم التي ترتكب منذ 50 عاما بشكل دائم ويومي فحتما سيتفوق اهتمامها بمصر عن اهتمامها بدولة وشعب يقع تحت نيران الاحتلال وتنتهك مقدساته وتصادر أراضيه ومنازله ويسجن الآلاف من أبنائه بقرارات اعتقال إداري ويضيق على مواطنيه في السفر والتنقل، ويقتل شبابه على الحواجز الأمنية لأسباب واهية وغير مقنعة، وهذا ما يفتح الباب واسعا أمام اتهام المنظمة الأمريكية ب"التحيز" سياسيا ضد أنظمة ودول بعينها، ولصالح أنظمة ودول أخرى، وبغض النظر عن مدى دقة هذا الاتهام، إلا أنه يبقي قائما طالما لم تراجع المنظمة بشكل أمين ومحايد وموضوعي أولويات اهتماماتها. أيضا فإن صدور التقرير عقب أيام قليلة من الأنباء والتقارير الإعلامية التي تواترت حول أن قرار الكونجرس بتخفيض المعونة المقدمة لمصر وتأجيل جزء منها مرتبط بوجود علاقات بين مصر وكوريا الشمالية وليس بسجل حقوق الإنسان، جعل التقرير "يستقبل" كأنه جزء من حملة ضغط أمريكي على مصر لغرض ما مرتبط بسياستها الخارجية، وكاتب هذه السطور من الذين يعتقدون أن المنتج الحقوقي يفقد كثيرا من مصداقيته عندما "يتمسح" بالسياسة أو يرافقها في طريق. سيظل تقرير "هيومان رايتش ووتش" مجرد تقرير، وسيتلاشى الجدل المثار حوله بعد حين، وسيخمد غبار المعركة بين "المكايدين" و"المطبلاتية"، ولكن ستبقى حقائق مهمة يجب أن نفكر فيها على أرضية وطنية وبعيدا عن أي تحيزات سياسية مع أو ضد السلطة القائمة، أبرز هذه الحقائق على الإطلاق هي أننا بحاجة إلى إصلاح نظمنا القانونية وممارسات جهات إنفاذ القانون لضمان التزامها بأقصى قدر ممكن من احترام حقوق الإنسان دون الانتقاص من قدرتها ومرونتها في التعامل مع الخطر الإرهابي الداهم الذي نواجهه جميعا، من بعد الإطاحة بحكم جماعة الإخوان، وهي معادلة ليست بعيدة المنال ويسهل تحقيقها إذا ما خلصت النوايا. الحقيقة الأخرى التي يجب أن نعترف بها، أنه في ظل طبيعة ميزان القوى الحالي في المجتمع الدولي، وفي ظل اختلال معايير العدالة والمصداقية والتجرد في السياسة الدولية، و"تغول" أفكار السيطرة والاستحواذ لدى صناع ومتخذي القرار في الدول المؤثرة والفاعلة، فإن حركة حقوق الإنسان ومنظماتها لن تستطيع أن تبقى دائما "عصية" على التوظيف والاستخدام بمنطق "قول الحق الذي يراد به باطل"، وستتحول المنظمات الحقوقية الدولية -كليا أو جزئيا- إلى "أذرع" للسياسة الخارجية لدول وقوى بعينها، وستبقى تقاريرها وإفاداتها "معلقة " بحبل السياسة. الحقيقة الثالثة هي أن الدولة المصرية بإرثها الحضاري الممتد وسابقة مشاركتها في المبادرة لتأسيس الهيئات الأممية وتصديقها على اتفاقيات حقوق الإنسان وعضويتها الحالية في مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، وبشعبها الذي ثار مرتين في عامين ونصف وأطاح بنظام فاسد وبجماعة فاشية، دولة بهذا الوصف يجب أن يكون لديها من الخطط وإجراءات الإصلاح ما يفوت الفرصة على من يستغلون ملف حقوق الإنسان لغرض آخر، فشعار "وطن بلا تعذيب" يستحق أن يكون برنامج عمل دولة لا يشغلها كيد "المكايدين"، ولا يفتنها تطبيل "المتزلفين" اقرأ أيضا: الخبير الحقوقي هاني إبراهيم يكتب: تضخيم لا يخدم قضايا حقوق الإنسان في مصر