توالى على حكم مصر منذ فجر التاريخ حتى اليوم 468 حاكما، يزيدون قليلا أو ينقصون، لا يحسب منهم الولاة ومندوبو الاحتلال، يتشاركون جميعا في سمة واحدة، أنهم يكرهوننا، بدقة يحتقرون الشعب المصري، يرون أن حكمه مجرد عبء على اكتافهم، وأنهم يستحقون بلدا أجمل وشعبا أفضل، وعلى العكس من ذلك فهذا الشعب "السيئ" كان ولا يزال يقدس حكامه، يعتقد أنهم أنصاف آلهة، إن لم يكونوا آلهة كاملين، لا يتهم هذا الشعب حكامه أبدا، دائما ما يجد لهم المبررات، فالحاكم دائما جيد ولكن البطانة التي تحيط به هي دائما سيئة، يبرئ حكامه من أفعال الظلم والفساد والقسوة المفرطة التي يعاملونهم بها، يلوم الجميع بمن فيهم أنفسهم دون أن يلوم حاكما واحدا. توالى على عرش مصر أصناف مختلفة من الحكام، من الصعب أن نجد فيهم من وصل إلى سدة الحكم بشكل شرعي، أقل القليل، أكثرهم كانوا أفاقين وعبيدا مجلوبين وغزاة وأولاد زنى، ولكنهم تألقوا وصعدوا ومَحَوْا كل تواريخهم السيئة وكتبوا سطورا جديدة في صالحهم وأغدقوا على أنفسهم كل ألقاب النبل، ففي أيام الفراعنة كانوا يمحون النقوش المحفورة على الأحجار مهما بلغت صلادتها، وفي عصرنا يبدلون الوجوه داخل الصور ويزيفون الحقائق داخل الوثائق، وربما كنا لا نعرف التاريخ الحقيقي لكل حاكم، فلا يوجد في مصر تاريخ حقيقي ومؤكد، ولكننا على الأقل نعرف نتيجة أفعالهم وهي لا تسر أحدا. الفراعنة العظام صدقوا بالفعل أنهم آلهة، وتعاملوا معنا على هذا الأساس، لم يبالوا بالفلاحين الذين كان الفيضان يغرقهم كل عام، لم يحاولوا بناء السدود أو تحويل مجرى الأنهار، اكتفوا فقط بتحصيل الضرائب من الفلاحين، بعد أن يدفنوا موتاهم، المشاريع العظيمة التي أنجزها ملوك الفراعنة كانت من أجل مجدهم الشخصي، أهرامات سامقة أنفق المصريون عشرات الأعوام في بنائها دون أن يكون لها عائد عليهم، معابد هائلة من أجل آلهة صماء لا ترى ولا تسمع، مقابر غائرة في جوف الأرض، ممتلئة بالذهب والجواهر والجثث الراقدة في انتظار بعث لا يجئ، الذي جاء هم اللصوص، دائما هم اللصوص، أهم الشخصيات التي تتحرك في صميم التاريخ المصري وليس خارجه. لم يحاول الفراعنة ترويض النهر، تركوه ينال أضحيته في كل عام من أرواح الفلاحين، تركوهم في بيوتهم الطينية التي لا تحميهم من برد أو حر، تركوهم تحت رحمة الصحراء التي تحاصر واديهم الضيق، كان عليهم بدلا من حفر المقابر أن يحفروا الآبار، وبدلا من الأهرامات والمعابد كان عليهم أن يقيموا السدود وأن يحفروا عشرات الترع، وأن يخترقوا رمال مصر التي لا تزال جافة، تركوهم تحت رحمة المجاعات كلما هبط مستوى النهر، فعل الفراعنة كل شيء، لا يوجد فيه فائدة للناس الذين عبدوهم، حكموا مصر ورحلوا عنها وهي على حالها، كما وهبتهم إياها الطبيعة دون إضافة أو تغيير. جاء ولاة وغزاة ومستعمرون، تعاملوا مع الشعب المصري بدرجة الاحتقار نفسها، لم يعترفوا أبدا أن له الحق في الحياة، في أن ينال القليل من العناية والاهتمام في مقابل الضرائب التي يدفعها والخيرات التي يوفرها، الحاكم بأمر الله الفاطمي كان واحدا منهم، مجنونا وقاسيا ولا يتورع عن فعل أي دناءات، ومع ذلك فهو في نظر البعض إمام معصوم، وما زالوا ينتظرون عودته، وكأن ما فعله في ظهوره الأول ليس كافيا، كان قد تعود أن يقضي الليل في إحدى غارات المقطم، وبينما كان عائدا ذات صباح مر بأحد الحمامات العامة وسمع أصوات النسوة من الداخل وهن يتضاحكن، كان هناك عرس وكن يغنين ويرقصن وهن يقمن بجلاء العروس، حالة إنسانية عادية من البهجة، ومع ذلك فقد بعثت بحالة من الغيظ الشديد في نفس الحاكم، شعر أنهم يتمتعون بشيء ليس من حقهم، أمر البناؤون أن يبنوا حائطا من الأحجار يسدون به مدخل الحمام، تركهم جميعا يختنقون في الداخل، وكان سعيدا عندما تحولت لحظة العرس إلى موت جماعي. جنون، أحيانا تبدو صفحات التاريخ المصري كصفحات منتزعة من كتاب الأمراض المستعصية، أعراض من حالات الجنون بمختلف أشكاله، أفعال من ممارسة القسوة لا يصدقها عقل، وحالة من خضوع الرعية واستسلامها لدرجة الهوان، مرض عضال، تمضي الأيام والأنظمة لا تسقط إلا فيما ندر، ولكنها تبقى وتدوم حتى تتفسخ وتتحلل من داخلها، أو تأتي قوى خارجية حتى تزيحها، المماليك الذين حكموا مصر لأكثر من 300 عام، لم ينسوا أبدا أنهم كانوا عبيدا يتحكمون في رقاب أحرار، أطلقوا على أنفسهم «أولاد الناس» بينما كان الآخرون مجرد زعر وحرافيش، أرادوا أن يؤكدوا أنهم ينتمون إلى أناس نبلاء في مكان ما، بينما بقية الشعب لا ينتمون لأحد، عشب بري من السهل إزاحته والتخلص منه. بعض حكام المماليك كانوا يعانون من سعار الدم، كان الحاكم يهبط من قلعته في الظلام ليهاجم العابرين الآمنين بسيفه، يوسطهم كما تقول الروايات، يقطعهم من الوسط إلى نصفين، يشفي غليلا حنقا لا أحد يعرف مصدره ولا أحد يحاسبهم عليه، الحكام القتلة كانوا أكثر مما ينبغي في تاريخنا، ولم يحدث أن قبض على أحد منهم أو تمت محاكمته، حتى في أيامنا المعاصرة، عندما تسبب حسني مبارك في قتل مئات المتظاهرين في الأيام الأولى للثورة، وتم القبض عليه ومحاكمته وهو أمر غير عادي، ثم تمت تبرئته بعد ذلك وأفرج عنه وهذا هو العادي، لا إدانة لحاكم مهما أوغل في الدم. عبد الناصر أعظم الزعماء شعبية في تاريخنا المعاصر، رئيس استثنائي، لكنه كان شغوفا بوضع كل الذين يخالفونه في السجن، سواء ارتكبوا جرما أم لا، ورغم حبنا له، كما نفعل معهم دائما، فقد كانت سجونه بالغة القسوة، وأكد أحد السجناء السياسيين أن مصر استقدمت خبراء للتعذيب من بقايا «الجستابو الألماني»، ويبدو أن جهودهم لم تقتصر على مصر، ولكن أساليبهم الجهنمية امتدت إلى العديد من الدول العربية، السادات أيضا، رغم الشقاء الذي تعرض له في شبابه، لم يتردد في وصف الجنود الذين عبروا القناة في حرب أكتوبر بالنمل، جنود يصارعون الموت ويهاجمون الدشم الإسرائيلية ببسالة، ولم ير قائدهم فيهم إلا مجرد نمل، مبارك هو أيضا لم يتورع في إطلاق اسم "الخرابة" على مصر بأكملها، ولم يمنعه هذا من سرقة مئات المليارات من هذه الخرابة وما زال هو وأولاده يمتلكونها حتى الآن. مصر، كما قال الجبرتي: هي صانعة الحكام، لكنها تصنعهم على أسوأ صورة ممكنة، فهي تبالغ في الخضوع والاستسلام لنزواتهم، ويعاني أهلها من غياب الوعي بأبسط حقوقهم الإنسانية، هذا الغياب هو الذي يجعلنا نتحمل الكثير من العنت دون أن ندري أو نعترض، وهذه هي أهمية ثورة 25 يناير.. إنها الصرخة الأولى لنا حتى نفيق من هذه الغيبوبة التاريخية الممضة.