بقلم الأثري/النخيلي محمود رفاعي مدير عام التوثيق الأثري بأسوان للأسف الشديد إن كلمة فرعون وجمعها فراعنة وفراعين قد ارتبطت في أذهان العامة والخاصة من الناس بالظلم والجبروت والطغيان. ومن المؤسف حقا أن يكون مفهومنا عن الحضارة المصرية القديمة وهى أول وأعظم حضارة إنسانية في الوجود قائما على أن الفرعون كان طاغية وكان مثلاً للدكتاتورية والحكم الفاسد، وأن تصبح كلمة فرعون مرادفاً للجبروت والظلم والطغيان. وهذا المفهوم راجع بالطبع إلى قصور في الفهم، وعدم قراءة واعية لتاريخنا المجيد الذي هو تاريخ الحضارة الإنسانية كلها. وليس ذلك وقفاً على العامة من الناس وإنما ينسحب ذلك علي المثقفين وصفوة المجتمع. ولكي تتضح لنا الرؤية يجب علينا أولاً أن نوضح معنى كلمة فرعون وأصل اشتقاقها؛ فلفظ فرعون لم يكن في بدايته أكثر من لقب اصطلاحي إداري؛ فكلمة فرعون في أصلها كلمة مصرية قديمة مكونة من لفظين؛ كانت تكتب منذ الدولة القديمة )بِر عو (، فكلمة (بِر) بمعنى بيت وكلمة )عو) بمعنى العظيم ، وبذلك يكون معناها) البيت العظيم) أو (البيت العالي) والتي كانت تطلق على البيت أو القصر الذي يسكنه حاكم مصر. ثم بعد ذلك أصبحت كلمة (بر عو) تُطلَق على القصر وعلى الحاكم الذي يسكنه في نفس الوقت،مثلما كان عليه الحال في العصر العثماني حينما عبَّروا بلفظ (الباب العالي) عن قصر السلطنة والسلطان الذي يسكنه في قولهم) أصدر الباب العالي فرمانا (وكانوا يقصدون بذلك ليس باب القصر وإنما السلطان العثماني،أو كما يقال حاليا (أصدر البيت الأبيض الأمريكي قرارا ) ويُقصَد بذلك الرئيس الأمريكي وليس البيت بجدرانه وأبوابه. ومع مرور الزمن وفى الدولة الحديثة في القرن العاشر قبل الميلاد على وجه التقريب أصبح المصريون وجيرانهم يطلقون لقب (بر عو) على كل ملك مصري يحكم مصر إلى جانب اسمه الشخصي مثل (برعو تحتمس، برعو رمسيس، برعو حتشبسوت...ألخ) بما يشبه لقب قيصر الذي كان يُطلَق على كل حاكم من حكام الرومان، ولقب النجاشي على كل حاكم من حكام الأحباش، ولقب كسرى على كل ملك من ملوك الفرس. ثم حرَّف العبرانيون لفظ (برعو( إلى (فرعو) نظرا لاختلاط الباء بالفاء في أغلب اللهجات القديمة، ثم أضافت اللغة العربية إليه نونا أخيرة فأصبح اللفظ (فرعون). وقد ذكره القرآن الكريم على هذه الهيئة الأخيرة. وهكذا فإن كلمة فرعون وجمعها فراعنة وفراعين لا تدل على جنس معين من البشر ، وليست مرادفا للمصريين أو الشعب المصري، أي أنه لا يُطلق على المصريين القدماء فراعنة، وإنما تطلق كلمة فراعنة على ملوك مصر القديمة فقط. ولا تدل كلمة فرعون على طغيان الحاكم كما يشيع خطأ بين الناس. وإنما كلمة فرعون كما رأينا لقب لكل ملك مصري يتولى حكم مصر بصرف النظر عن طبيعة حكمه. فالمصريون القدماء يقصد بهم سكان مصر جميعا. وإذا كان القرآن الكريم قد وصف الفرعون الذي عاصر سيدنا موسى بصفات الظلم والجبروت في أكثر من موضع وتجاوز عن ذكر اسمه، فهذا حق، علينا أن نؤمن به وأن نصدقه، ولكن ليس علينا أن نعمم صفات هذا الفرعون على كل الفراعنة، لأن القرآن الكريم لم يقصد سوى فرعون موسى عليه السلام الذي قام بتعذيب بني إسرائيل وإخراجهم من مصر . فالفراعنة مثل سائر الحكام في كل زمان ومكان منهم الصالح ومنهم الطالح، ومنهم العادل والظالم. بل إن الفراعنة امتازوا عن سائر الحكام في العصور القديمة بكثير من المميزات. فعلى الرغم من أن الفرعون كان مقدسا لدى شعبه وكان حكمه مقدسا أيضا،حتى أن درجة قداسته وصلت إلى أنه حينما قام أحد الأفراد بتقبيل قدم الملك في أحد العصور اعتبروا أن الملكية قد اهتزت،حيث أنه لم يكن مسموحا قط إلا بتقبيل التراب الذي يمشى عليه الفرعون لأن جسد الفرعون كان مقدسا. وبالطبع كانت هذه ثقافة ذلك العصر وعقيدته. ورغم أن حكم الفرعون كان أيضا كثيرا ما يصطبغ بالصبغة العِسكرية إلا أنه رغم كل ذلك فإن الفرعون قد أثبت قدرته على التفكير السياسي السليم وكذلك القدرة على البناء والتشييد، وبناء حضارة على أسس علمية عظيمة أذهلت جميع العالم القديم والحديث. وما زلنا حتى الآن نحاول سبر أغوار تلك الحضارة،واستكناه عظمتها،واستقراء مفرداتها العبقرية. لقد كانت ثقافة الفرعون هي البناء والتشييد وليس الهدم والتدمير. لقد لبس الفرعون تاج الوجه القبلي والبحري المزدوج ليجمع شمل قطري مصر الجنوبي والشمالي وينشر بينهما الحب والسماحة. وسمى نفسه ملك مصر العليا والسفلى، إلى غير ذلك من الألقاب التي تجعله ينتمي إلى الوجهين دون تفريق بينهما .واختار الفراعنة عاصمتهم منف (البدرشين بالجيزة حاليا) في معظم عصورهم حتى تقوم بدورها الإستراتيجي بين الشمال والجنوب وهو المكان الذي استمرت العاصمة فيه أو بجواره حتى الآن في جميع عصور الحضارة المصرية والإسلامية حتى الوقت الحاضر. وكان الفرعون يهتم بالزراعة التي هي أساس قيام الحضارة المصرية، فنراه يظهر في النقوش وهو يمسك الفأس ويعزق الأرض، أو يشق قناة لتروي الأرض أو يقيم سدا لحجز المياه، ويستغل نهر النيل أفضل استغلال،مما جعل مصر بلدا زراعية خصبة،حتى أن أهلها أسموها (كِمت) بمعنى السمراء نظرا لخصوبة تربتها وتنوع محاصيلها على يد هؤلاء الفراعنة. وكان الفرعون كذلك يظهر في النقوش وهو يضع حجر الأساس للمنشآت الدينية والمدنية. فهو ملك يعمل للبناء دائما، والدليل واضح لنا وهو تلك العمائر الضخمة والمشروعات التي بقيت لنا من تلك العصور المجيدة تشهد بعظمة تفكيرهم.وقد نظر الفراعنة إلى الأمن والاستقرار من بداية عصورهم، فكونوا جهازا للشرطة، وجهازا للقضاء. وأصدروا التشريعات والقوانين التي تحارب الفساد والرشوة والجريمة، وتضرب على أيدي الخارجين على القانون بيد من حديد. وكان القصاص رادعا عادلا، مما جعل مصر دولة آمنة مطمئنة ، حتى أننا نجد القرآن الكريم يأمر بني إسرائيل (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) فلولا الفراعنة وعدالتهم وحبهم و إخلاصهم للوطن ما كان هذا الأمان الذي تحدث عنه القرآن . وتحت حكم الفراعنة نبتت وتطورت علوم الكيمياء، وظهر التحنيط كفن من فنون الإعجاز العلمي الذي يحير العقول حتى الآن. وتحت حكم الفراعنة برع المصريون في الطب وبرزوا في كافة تخصصاته من الطب العام وطب الباطنة وطب المخ والقلب والأوعية الدموية وطب الأسنان والجراحة والعظام والمسالك البولية وأمراض النساء والتوليد،والطب البيطري. حتى أن الملوك الأجانب كانوا يستعينون بالأطباء المصريين لمداواتهم، ومن ذلك قورش العظيم وغيره من أكاسرة الفرس وملوك العالم القديم .وتحت حكم الفراعنة صار المصريون أعظم أهل الأرض في علم الفلك ومواقع النجوم فاخترعوا التقويم النيلي والتقويم الشمسي وقسموا السنة إلى اثنى عشر شهرا والشهر إلى ثلاثين يوما بواقع 365يوما للسنة،كما عرفوا السنة البسيطة والسنة الكبيسة، كما قسموا السنة كذلك إلى فصول فسبقوا بهذا التقويم العالم كله . وتحت حكم الفراعنة كان لمصر أول وأعظم جيش في تاريخ العالم دافع عن ترابها وعن حريتها وكرامتها،وحقق فتوحات عظيمة، وأقام إمبراطورية كبيرة سيطرت على معظم العالم القديم. وكان الفرعون يقود الجيوش بنفسه،حتى أننا نجد أحد الملوك المصريين وهو (سقنن رع) يموت شهيدا في ميدان القتال ضد الهكسوس المحتلين ليكون أول ملك في تاريخ العالم يموت شهيدا دفاعا عن كرامة وطنه وحرية بلاده. وكان الفرعون لا يفرط أبدا في أي شبر من حدود مصر بل ويوصي الأجيال التي ستجيء من بعده بضرورة الحفاظ على تلك الحدود ويتبرأ ممن لا يحافظ عليها؛ فها هو الملك سنوسرت الثالث يترك وصية ما زالت منقوشة على الصخر عند حدود مصر قائلا:"هذه حدودي فمن حافظ عليها فهو ابني مولود من صلبي ومن لم يحافظ عليها فهو ليس ابني وليس مولودا من صلبي". وكان الفراعنة ذوى أخلاق عسكرية نبيلة وسماحة عظيمة؛ فهذا تحتمس الثالث جبار الحرب وصاحب أكبر إمبراطورية في العالم القديم والذي يلقبه المؤرخون بنابليون العالم القديم؛ حينما حاصر مدينة مجدو بالشام وسقطت في يده واستسلم له أمراءها وسكانها وطلبوا منه العفو فإنه عفا عنهم بسماحة المصريين ونبلهم، بل وترك الأمراء على إماراتهم، واكتفى بخضوعهم للتاج المصري. بل كان يربى أبناءهم مع الأمراء المصريين في القصر الملكي في مصر حتى يتشربوا الثقافة المصرية ويشبوا أوفياء لمصر ويتولوا حكم بلادهم بعد وفاة آبائهم .ونقارن سماحة الفراعنة مع جبروت حكام الفرس والرومان والأشوريين في ذلك الوقت الذين كانوا إذا فتحوا مدينة يهدمون ما شيدته حضارتها، ويحرقون أهلها، ويبقرون بطون الحوامل من النساء ويسلخون جلود القتلى، ويشربون النبيذ في جماجم أعداءهم،أو يصنعونها مسارج . ونقارن ذلك أيضا مع ما تحدثه اليوم أمريكا واليهود وغيرهما من قتل للبشر وهدم للحضارات. ولكن الفراعنة لم يؤثر عنهم مثل هذه القسوة إلا في القليل النادر رغم أنهم سادوا العالم. وتحت حكم الفراعنة كان لمصر أعظم أسطول بحري جاب المياه واستخدمه الفراعنة للتجارة،فأرسلوا السفن للتجارة ورحلات الكشف عن الجنوب والمجهول . واهتم الفراعنة بالدول الأفريقية إيمانا منهم بالبعد الإستراتيجي لحدود مصر الجنوبية وحفاظا على النهر المقدس شريان حياتهم الذي يأتيهم من تلك الأماكن الجنوبية محملا بالخير والنماء.وحدث تبادل تجارى عظيم مع الدول المجاورة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا . كما استطاع المصريون تحت حكم الفراعنة في تلك العصور القديمة الدوران حول أفريقيا لأول مرة في تاريخ العالم .وتحت حكم الفراعنة تم كسر شوكة الشعوب التي اجتاحت العالم القديم وقضت على الكثير من حضاراته مثل الهكسوس وشعوب البحر وغيرهم ممن قضت عليهم مصر وأنقذت العالم القديم منهم. وتحت حكم الفراعنة كان المصريون أول من خط وكتب في تاريخ العالم حينما اخترع المصريون الكتابة فكانوا أول شعب يدخل العصور التاريخية فقاموا بتسجيل أحداث عهدهم وعقائدهم الدينية وآدابهم ومعاركهم الحربية وانتصاراتهم وعلومهم. وتحت حكم الفراعنة نما الأدب بفروعه من قصة وأسطورة وشعر وأدب رحلات وحِكم ومواعظ وأمثال. وأنتج لنا الأدب المصري أجمل وأخلد قصص الحب والوفاء وانتصار الخير على الشر، ومنها قصة إيزيس و أوزيريس الخالدة، والتي توضح لنا أن العدل والخير والحب لابد أن ينتصروا في النهاية على الظلم والشر والكراهية، مهما طال الأمد . وتعطينا هذه القصة صورة مشرقة عن حب المرأة وإخلاصها لحبها ولزوجها والتي تمثلت في إيزيس الزوجة المخلصة التي جابت العالم طويلاً وهى تبحث عن زوجها وحبيبها أوزوريس الذي مزقه الشرير ست، حتى جمعت أشلاءه وأعادته للحياة وأنجبت منه ابنها حورس الذي انتقم لأبيه بمساعدتها، واسترد عرشه وهو عرش مصر؛فصارت إيزيس رمزاً للحب والوفاء والإخلاص، وصار حورس رمزا للمكية والعدل والمطالبة بالحق والبر بالوالدين، وصار أوزيريس إماماً للشهداء والمظلومين، ورمزاً للخير والخصوبة والنماء. وما زالت قصة إيزيس و أوزيريس من روائع الأدب العالمي ومعينا يغترف منه الأدباء والشعراء حتى الوقت الحاضر. وتحت حكم الفراعنة ومنذ بداية التاريخ المصري نمت عند المصريين فكرة البعث والخلود، والثواب والعقاب.فالحياة الدنيا كانت بالنسبة لهم رحلة قصيرة إلى حياة أبدية خالدة ينالها أهل العمل والبناء والتعمير، أهل الخير والحق والعدل والصلاح ، وكل من يثبت أن قلبه لم يحيد يوماً عن(الماعت) أي الحق- العدل- النظام . لقد أقام الفراعنة دولة الحق والعمل. ونشروا العدل فتحقق لهم الحفاظ على النظام الكوني الذي كانوا يعتقدون أنه أساس بقاء العالم، وكان أساس حكم الفرعون أن يحافظ على هذا النظام من الفوضى، ذلك النظام الذي وضعه الإله حينما خلق العالم ؛وأن الفوضى في عقيدتهم لو تمكنت تؤدي إلى انهيار هذا النظام الكوني، وبالتالي يحل الظلام الأبدي مرة أخرى على العالم ليصير مثلما كان قبل بداية الخلق .وتحت حكم الفراعنة تسامى العقل في البحث عن الخالق وظهرت الوحدانية وعبادة إله واحد لا شريك له .وظهرت أرقى المذاهب الفلسفية في تفسير نشأة الوجود ،والتي تذكر أن الإله خلق الكون بالكلمة وبإرادته ورغبته، مما ينم عن عقل راق عظيم ما كان له أن ينتج تلك الأفكار العظيمة لولا وجود حكم مستقر عظيم . وتحت حكم الفراعنة كان نهر النيل مقدسا لابد من الحفاظ عليه والحفاظ على مياهه نقية من أي تلوث. فهو الذي يهب الخصوبة والخضرة والنماء للأرض وحينما يموت الإنسان كان من شروط دخوله الجنة أن يقدم صحيفة أعماله في الدنيا ولابد أن يكون فيها (إنني لم ألوث ماء النيل) . كان الفراعنة يرون أن مصر هي أرض الحياة والخصوبة، وأن خيرها عظيم لكنه يتأتى بالعمل والنظام والحفاظ على سيادة القانون.وكان القانون والنظام لفظين مترادفين لدى المصري القديم. وكانت مصر لديهم هي نموذج النظام والحق والعدل .وتحت حكم الفراعنة خطت الديمقراطية خطواتها الأولى على أرض مصر وأصبحت إحدى مفردات النظام .حتى أننا نجد الفرعون بيبي الأول من فراعنة الدولة القديمة في الأسرة السادسة حينما يكتشف تآمر إحدى زوجاته ربما لقلب نظام الحكم لصالح ابنها يقوم هذا الفرعون بندب المحقق) وِنِى (الذي كان قاضيا ويتركه يحقق في الجريمة دون أن يتدخل الفرعون في سير التحقيقات مراعاة للحيادية والعدالة. كما نجد الفرعون رمسيس الثالث من فراعنة الدولة الحديثة حينما اكتشف مؤامرة كبيرة على حياته، فما كان منه سوى أن يأتي بالقاضي ويتركه يحكم على المتآمرين بما يراه القانون العادل دون أي تدخل من الملك في سير التحقيقات أو الحكم. وفى النهاية يصدر الحكم من القاضي ببراءة بعض المتهمين،وعلى البعض الآخر بالسجن،وعلى آخرين منهم بجدع الأنف،وعلى آخرين بالإعدام. ورغم أنه لم يكن هناك ما يمنع الملك من الحكم على الجناة إلا أن احترام العدالة ودواعي الديمقراطية جعلت الفرعون يترك القاضي يطبق قانون)الماعت(على الجناة دون أن يتدخل في نتيجة الحكم. وقصة القروي الفصيح الممتعة دليل دامغ على الديمقراطية والعدالة التي كان يُطًبقها الفرعون؛ فعندما جار أحد رجال البلاط الملكي على رجل قروي فقير من عامة الشعب المصري وأخذ متاعه ومواده التي جاء من قريته ليتاجر فيها نجد أن القروي الفقير الفصيح يتمسك بحقه ويرفع شكواه إلي المسئولين،فلما لم يستجيبوا له يرفع شكواه إلي الفرعون نفسه مرسلاً له عدة رسائل تفيض بلاغةً وألماً. فما كان من الفرعون إلا أن يطيل مدة الفصل في شكوى القروي رغبة من الفرعون في أن يصله الكثير من الرسائل حتى يتمتع بأسلوب القروي الفصيح وبلاغته المدهشة. وكان الفرعون أثناء ذلك يرسل لأولاد القروي كل ما يحتاجونه من المؤن. وفى النهاية يأمر الفرعون بإعادة جميع حقوق القروي الفصيح بل ويعطيه كل متاع موظف البلاط الظالم. وتحت حكم الفراعنة أخذت المرأة حقوقها وشاركت في الحياة السياسية بل والعسكرية سواء كانت أمًا للملك،أو زوجته،أو كانت ملكة مطلقة على عرش مصر .لقد كانت المرأة المصرية أول امرأة تعتلى عرش المملكة في العالم. ولم نرَ في تاريخ العالم القديم عددًا كبيرًا من النساء الملكات أو المشاركات في السياسة كما رأينا في مصر القديمة . بل رأينا المرأة تسوس الحكم وتعبئ الجيش حتى يتم الانتصار واسترداد أرض مصر من المحتلين، وذلك مثلما حدث من الملكة إياح حتب أثناء حرب التحرير ضد الهكسوس الذين احتلوا مصر. وتحت حكم الفراعنة ازدهر التعليم في كافة المجالات وانتشرت المدارس والجامعات والأكاديميات؛ منها ما هو ملحق بالمعابد ومنها ما يجاورها،ومنها ما كان ملحقا بقصور الفراعنة.ولم يكن التعليم مقصوراً على أبناء الأغنياء وإنما كان كذلك لأبناء الفقراء من الشعب المصري.ولم تكن الشهرة والتفوق والوظائف العليا حكرا على أبناء الطبقة العليا بل كان لأبناء الطبقة البسيطة قسط من ذلك. فإن إيمحتب المهندس العبقري الذي صمم مجموعة الهرم المدرج للملك زوسر وكان طبيباً وكاهناً وفلكياً كبيرا،وهو أول من شيد بناء حجريا كاملا في تاريخ العالم كان هذا الرجل من عامة الشعب المصري، وتبوأ مكانته اللائقة بذكائه وتفوقه، لا بحسبه ونسبه . وقد قدسه المصريون بعد وفاته بمئات السنين واعتبروه من رعاة الطب والهندسة والكتابة حتى أن الكتبة كانوا إذا هموا بكتابة شيء كانوا يتمتمون باسمه تبركا به. كما أن الملك حور محب العظيم لم يكن من أسرة حاكمة وإنما كان من عامة الشعب المصري وتدرج في الوظائف العسكرية حتى صار قائداً عاماً للجيش، ثم أصبح ملكا على مصر. وقد كان الفراعنة يكرمون العلماء والنابهين من أبناء وطنهم فيمنحونهم الذهب أو الملابس الثمينة أو الإقطاعيات، لدرجة أن المهندس المعماري العبقري)سنجم إيب إنتى) يفخر على جدران مقبرته بالجيزة أن الفرعون كافأه بأن أمر أن يُعَطَّر جسده ويُمسح بالزيت العطري(مِرِح)المجلوب من بلاد (بونت ((الصومال حاليا) تقديراً له. كما كان الفرعون يكرم كل من يبلي بلاء حسناً من جنوده أو قواده في ساحة القتال. وقد ذكر كل من القائدين أحمس بن نخبت وأحمس بن إيبانا على جدران مقبرتيهما بالكاب بإدفو أن الفرعون أحمس كافأهما بالإقطاعيات و الأراضي والأنواط والذهب والعبيد تقديرًا لما أبلوه من بلاء حسن في الحرب ضد الهكسوس. كما كان الفراعنة يقيمون مستشفيات ملحقة بالمعابد كان منها مستشفيات للعلاج المجاني لفقراء المصريين. وقد بلغ من رحمة الفراعنة وحفاظهم على كرامة المصريين من أبناء شعبهم أنهم كانوا يرسلون بعض الأطباء المصريين إلى دول خارجية لعلاج إخوانهم المصريين الذين كانوا يسافرون للعمل في الخارج فكان الفرعون يصرف مرتبات لهؤلاء الأطباء نظير مداواتهم لإخوانهم المصريين هناك، وذلك حفاظًا على كرامة المصري خارج حدود دولته. وحينما مات أحد المصريين مغتالا خارج حدود مصر نجد الفرعون يرسل حملة للأخذ بثأره من الأجانب الذين قتلوه ،ويأمر الحملة بإحضار جثمان المصري حتى يتم تحنيطه ويدفن في تراب وطنه طبقا للمراسم المصرية. كما سمح الفراعنة للناس من مختلف طبقات الشعب المصري بأن يدفنوا بالقرب منهم بعد موتهم. وقد عمت رحمة الفراعنة الحيوانات أيضا،حيث كان هناك الأطباء البيطريين الذين يهتمون بالحيوانات ويعالجونها،ولا يتم ذبحها إلا بعد توقيع الكشف الطبي عليها وثبوت خلوها وسلامتها من الأمراض وذلك رحمة بالحيوان وحفاظا على سلامة أبناء الشعب من الأمراض .كما كانت الحيوانات تذبح في مجازر خاصة بها،ولا تذبح في الشوارع.و كان هناك تعداد دوري للماشية مثل تعداد البشر .كما كان الفراعنة يتوخون العدل ويحرصون عليه ويوصون من سيخلفهم في الحكم باتباع سبل العدالة في الرعية ؛فنجد الفرعون خيتي ينصح ابنه قائلا له":أصلح مكانك في العالم الآخر بالاستقامة وأداء العدالة فإن قلب الإله يرتاح إليها،واعمل لربك يعمل لك بالمثل،والزم العدل تخلد في الأرض، وعامل الفقير مثل معاملتك للغني فالبشر رعايا الإله". هؤلاء هم الفراعنة الذين حكموا مصر والذين نظلمهم بوصفنا لهم بالظلم والجبروت. نعم كان هناك فراعنة ظالمين، لكن الأغلبية كانت صالحة .ليس من الضروري أن يكون الحكم ملكيا أو جمهوريًا، أو دينيًا أو مدنيًا، إن الأصل في الحكم أن يكون حكمًا عادلاً يرعى مصالح الشعب والمواطنين ويعمل للبناء والتعمير وإقامة العدل بين الناس فتنهض الدول وتنمو الشعوب ويعم الرخاء .لقد جعل الفراعنة مصر سيدة العالم، لقد حقق الفراعنة كل ذلك، فهل حكامنا حققوه الآن؟! ليتنا نقرأ تاريخنا المجيد ونستوعب حضارتنا المصرية العظيمة، ونفهم أن كلمة الفرعون تعادل الحاكم أو الملك أو الرئيس أو السلطان وليس الشعب. كما أنها ليست معناها الجبروت والظلم كما رأينا. ليت حكامنا يعملون مثل أجدادهم ويعيدون أمجاد مصر العظيمة.