مع نهاية عام 2025.. لم يكن الاحتفال بمئوية مجلة روزاليوسف مجرد مناسبة تاريخية، ولا استدعاء نوستالجيا لزمن مضى، أو حتى حدثًا عابرًا ضمن أحداث العام.. جاء الاحتفال بمئوية المجلة، أكتوبر الماضي، كلحظة مواجهة صريحة مع الحاضر، وسؤالا مفتوحا عن المستقبل. مائة عام مرت، تغير فيها كل شيء تقريبا.. السياسة.. المجتمع.. أدوات الإعلام..وحتى علاقة الناس بالمعرفة. وحدها الأسئلة الكبرى ظلت كما هي.. من يقول الحقيقة؟ ولماذا؟ ولصالح من؟ روزا فى المواجهة! فى ظل كل هذه التعقيدات والمستجدات والتقلبات.. روزا ليست مجلة عابرة فى المشهد الصحفى المصري.. فمنذ تأسيسها، لم تقدم نفسها باعتبارها نشرة أخبار.. ولا مجرد انعكاس بليد وبارد للواقع.. لكنها طوال قرن كامل حتى فى أضعف حالاتها فاعل أساسى فى تشكيل الوعى العام.. ولاعب أساسى فى المشهد كله.. حتى إن أغلب صناع المشهد وأسطواته من أبنائها ومواهبها. سر البقاء وهذا هو سر البقاء.. إنها مدرسة حقيقية آمنت مبكرا بأن الصحافة ليست وظيفة تكميلية.. بل ضرورة اجتماعية.. وأن الحرية ليست مجرد شعار، بل ممارسة يومية.. حتى فى أضيق المساحات. قرن كامل خاضت فيه المجلة معارك فكرية وسياسية وثقافية، دفعت خلالها أثمانا باهظة، لكنها لم تتخل عن جوهرها. واجهت الاستبداد حين كان الصمت أسهل وأنجى، ووقفت فى وجه الجماعات المتطرفة حين كان خطابها يجد آذانا صاغية وشرعية توافق الرأى العام. اصطدمت وصادمت الأفكار المتخلفة التى حاولت تعطيل العقل باسم الدين أو التقاليد أو الخوف من التغيير. مئوية جديدة ونحن على أعتاب مئوية جديدة.. لم تسع روزا أبدا للراحة وما أسهل الراحة بينما تتحول المنصات لنشرات علاقات عامة او ابتزاز باسم الصحافة. راحة روزا الوحيدة كانت فى القلق. قلق السؤال، وقلق البحث، وقلق الاختلاف. لم تدخل معاركها بحثا عن بطولة، بل دفاعًا عن فكرة أساسية تتمثل فى أن المجتمع الذى يتوقف عن السؤال يبدأ فى التحلل، حتى لو بدا مستقرا من الخارج.. فالأمن لا يستتب أبدا إذا أهدرت القيمة وإذا ضاع المعنى. لا يمكن فصل احتفال روزا بمئويتها عن السياق العام الذى تعيشه الصحافة من تحديات ومربكات. حيث تتراجع قيمة المعرفة أمام سرعة المعلومة، ويتقدم الانفعال على التحليل، ويكافأ فيه الضجيج أكثر مما يكافأ الفهم. سؤال العام كل شيء الآن ضحية الاستخفاف.. من الأفكار الكبرى إلى أبسط الأفكار.. ووسط هذا السياق العبثي، يطرح البعض سؤالًا يبدو منطقيا: ما فائدة بقاء مجلة مثل روزاليوسف؟ هل لا يزال للصحافة الجادة مكان فى عالم تحكمه الخوارزميات.. ويقوده «التريند»، وتختزل فيه القضايا المعقّدة فى عناوين صادمة أو مقاطع قصيرة؟ وسط كل هذا الخلل.. لماذا يجب أن تبقى روزا؟! الإجابة، فى جوهرها، هى سبب وجود روزاليوسف منذ البداية. تبقى روزا لأنها ليست مجرد وسيلة نشر، بل مساحة تفكير. مساحة تسمح بتعدد الأصوات، وبالجدل الصحي، وبالاختلاف الذى ينتج معرفة لا انقساما. فى مجتمع مهدد على الدوام بانتشار الخرافة، وتصديق العبث، وتحويل الرأى إلى بديل عن الحقيقة، تصبح هذه المساحة ضرورة لا رفاهية.. روزا، بهذا المعنى، تؤدى دور الرئة. الرئة التى يتنفس منها المجتمع حين يفسد الهواء، وحين تغلق كل النوافذ، وحين يصبح الصمت هو القاعدة. الصحافة ومهمة الإنقاذ دورها ليس طبعا أن تصرخ طوال الوقت، بل أن تضمن تدفق الأكسجين من خلال أسئلة، معلومات، تحليلات، ووجهات نظر قادرة على كسر حالة الجمود. من المهم أن تبقى روزاليوسف لأن من حق الناس أن تعرف وأن تفهم ما يجرى حولها، وأن ترى الصورة كاملة، لا مجتزأة ولا مشوهة. الصحافة ليست قطعا بديلا عن السياسة، لكنها شرط من شروطها الصحية. وليست تهديدا لاستقرار الدولة، بل هى شريك فى تصحيح المسار، وكشف الأخطاء قبل أن تتحول إلى أزمات كبرى. درس التاريخ التاريخ.. يعلمنا أن أخطر لحظة على أى مجتمع هى تلك التى يشعر فيها المسئول بالاطمئنان الكامل. حين يختفى النقد، ويُغلق باب المساءلة، ويُنظر إلى الصحافة باعتبارها عبئا لا ضرورة. فى تلك اللحظة، يعرف الفساد طريقه بهدوء، ويترسخ الخطأ باعتباره أمرا طبيعيا.. ولا بد أن نعتبر بمجريات التاريخ وحوادثه، حتى لا نقع فى الحفرة مرتين! ميزة روزاليوسف الحقيقية أنها لم تتعامل يوما مع النقد باعتباره خصومة. اختلافها وخلافها، حتى فى أكثر لحظاته حدة، ظل قائما على أرضية وطنية واضحة. نقدها لم يكن يوما سعيا لتصفية حسابات، ولا خدمة «مصالح» ضيقة. هدفها الأساسى كان وسيظل «الصالح» العام، حتى حين يكلفها ذلك الكثير. روزا مدرسة صحفية كاملة؛ تؤمن بأن الجدل ليس عيبا، بل ضرورة، وأن الحقيقة لا تقدم جاهزة، بل تُبنى بالبحث والمواجهة وتعدد الزوايا. مدرسة خرجت أجيالا من الصحفيين الذين فهموا المهنة باعتبارها موقفا أخلاقيا قبل أن تكون حرفة، ومسئولية اجتماعية قبل أن تكون مصدر رزق. قبل أن يضيع الهواء! قد يبدو هذا الكلام دفاعا من منتم وابن لهذه المدرسة.. أو شهادة مجروحة فى وجه من يريدون التجريح فى معنى وقيمة كبرى. لكنه فى حقيقته دفاع عن فكرة أوسع.. أن الصحافة الجادة هى أحد أعمدة الاستقرار الحقيقي، لا نقيضه.. كما يروج البعض! وأن المجتمعات لا تنهار فجأة.. بل تختنق ببطء حين تفقد قدرتها على التفكير والنقد والمساءلة. مع انتهاء عام 2025، وبداية عام هو الأول فى مئوية جديدة لروزا، يصبح السؤال الحقيقى الذى يجب طرحه: هل نملك رفاهية الاستغناء عن صحافة تفكر؟ هل يمكن لمجتمع أن يعيش بلا رئة؟ ربما تتغير الأشكال، وتتنوع المنصات، وتختلف الوسائط، لكن الجوهر واحد.. طالما بقيت الحاجة إلى الفهم، وإلى السؤال.. وإلى صوت لا يخاف من التفكير بصوت عال. وبالتالى ستبقى روزاليوسف.. لأنها ضرورة.. لأنها مساحة إنقاذ. ..وتبقى لأن المجتمعات التى تريد أن تعيش.. لا تتخلى أبدا عن هوائها. 2