في توقيت صعب خرج حزب البناء والتنمية بمبادرة لوقف إطلاق النار من قبل الجماعات التكفيرية ووقف المداهمات من قبل الدولة والدخول في حوار ممتد مع العشائر والقبائل والتواصل بالطبع مع الجماعات المتطرفة. حزب البناء والتنمية هو حزب رسمي لم يطله الحل كما طال حزب الحرية والعدالة وحزب الاستقلال لمجدي حسين، وبذلك فهو في تواصل مع الدولة الرسمية، ولم يتورط في العنف بعد الثلاثين من يونيو. ربما في وقت سابق كنت لا أقبل بهذه المبادرة، ولكن في هذا التوقيت الحرج، أعتقد أن التفكير فيها وبحثها له وجاهته لعدة أسباب. أولا: مر ما يقرب من أربع سنوات على الثلاثين من يونيو، ففي يونيو القادم ستتم الأربع سنوات كاملة، وبالتأكيد الدولة المصرية أجهضت كثيرا من تحركاتهم وقبضت على آلاف منهم وقتلت عددا مماثلا، ولكن من الجهة الأخرى فإن قواتنا تكبدت عددا من الشهداء والمصابين ليس بالقليل. والأكثر من ذلك هو تأثر الاقتصاد المصري بشكل كبير، وبخاصة قطاعا السياحة والاستثمار، فتفجير الطائرة الروسية كان كفيلا بتراجع السياحة، وعدم الاستقرار بشكل عام يؤثر على الاستثمار والسياحة في وقت واحد. السبب الثالث: أن الظهير الشعبي في سيناء غير واضح المعالم، فلا توجد معلومات دقيقة، والنظام جعل من الملف ملف أمني فقط، وليس له أبعاد اجتماعية وثقافية متعددة، والتعامل مع الملف بهذا الشكل هو خطأ كبير، فلا تقدم معلومات وغير مسموح بجوارات صحفية أو تليفزيونية في تلك المناطق، فالصوت الآخر غير مرئي وغير مسموع، وهذا يخيفنا ولا يطمئننا، وبعض الملامح كانت كفيلة بقلقنا عندما أضرب عدد من القبائل في سيناء وتضامن معهم نواب البرلمان المحسوبون على الموالاة من دعم مصر، بسبب موت 10 من أبنائهم ادَّعت الأجهزة الأمنية أنهم قُتلوا في تبادل لإطلاق النار، وقالت الأهالي إنهم كانوا محتجزين لدى الأجهزة الأمنية قبلها بأسابيع وبعضهم بشهور، وتخافتت هذه الأصوات بدون إعلان تفهمهم للوضع بما يعني أن ضغوطا أمنية هي التي أسكتتهم، كل هذا يجعل البيئة الحاضنة للإرهاب موجودة، وأن مستوى التعاون مع الدولة ضعيف ومتراخ، سواء بسبب الخوف، أو بسبب التعامل الخشن من الأجهزة مع الأهالي، ربما. تصنيف المقبوض عليهم أو الضحايا عرقيا وجغرافيا غير واضح، ولا توجد معلومات موثقة ولكن من المرجح أنهم في الأغلب الأعم هم من أهالي وقبائل سيناء. استمرار المعركة على هذا النحو على مدار أربع سنوات وقدرتهم على توجيه ضربات موجعة كما حدث في الكنيستين محل دهشة، وعدم يقين في انتهاء المعارك في الأمد المنظور. ولا ننس أن جزءا من المشكلة مسؤول عنها المجتمع والنخبة والنظام، فانتشار العنف الفكري على مدار عقود ممتدة كان تحت عين النظام وربما بتشجيع منه أو بتغافل، وعدم الاهتمام التنموي بهذه المناطق كان له دور، ومستويات الجهل والأمية مرتفع في تلك المناطق، وتراجع التنمية، كل هذه عوامل، فالإرهاب له عوامل متضافرة وليس عاملا واحدا، وترعرعه الفكري هو مسؤوليتنا جميعا، فلا ننس أنهم ضحايا جهل وتخلف وتراجع حضاري وتجاهل من الدولة، وربما تمييز سلبي ضدهم. وتجربة المراجعات الفكرية في التسعينيات من القرن الماضي مع الجماعة الإسلامية لم تكن فاشلة كما يروج البعض، فمجرد انسحاب آلاف من مربعات العنف المادي إلى مربعات العنف الفكري هو نجاح، وهذه المعارك تكسب بالنقاط وليس بالضربة القاضية. الضربات القوية من قبل الأجهزة الأمنية، رغم ردعها وإرهابها لهذه المجموعات، فإنها أحيانا ما تولد طاقة الثأر التي تدعم طاقة الأيديولوجيا المنحرفة، وهذا ما يدفع إلى أعلى درجات العنف المادي وهي الانتحار بتفجير النفس في الآخر. ولا سبيل إلا إلى الحوار في النهاية، لأن هذه الجماعات لن تمحى من الوجود بالمواجهة المسلحة، بل على العكس، فالضحايا تصنع أيقونات وتمد في أعمار تلك التنظيمات، فإعدام سيد قطب نشر فكره المتطرف ولم يقض عليه وصنع منه أيقونة آثاره السلبية الممتدة بنا حتى الآن. ولذلك فمن المؤكد أنه بعد المواجهة يجب أن نصل إلى مرحلة الحوار، ليس بالضرورة أن تجلس الدولة الرسمية للحوار، ولكن الوسطاء من أمثال عبود الزمر والجماعة الإسلامية قادرون على حوارهم من منطلقاتهم الفكرية، لأنه من غير الممكن حوارهم من منطلق الدولة الوطنية القطرية المدنية. وإذا كنا قد تحاورنا مع الكيان الصهيوني في النهاية، أفلا يجب أن نتحاور مع مواطنينا ممن ينظر إليهم من زاوية أنهم إرهابيون ومن زاوية أخرى هم ضحايا تهميش وجهل وتمييز وبخاصة شبابهم الأغر الصغير. إن كان صحيحا أن الدولة استعانت بميليشيات من البدو فهذا خطأ يجب التراجع عنه، ولكني أقترح أن يدمج شباب البدو بشكل رسمي في الأجهزة الأمنية، الجيش والشرطة، ولكن لا يعزلون في كتائب خاصة، بل يوزعون على الكتائب بشكل متوازن، بحيث يندمجون مع الدولة المصرية ومع رفقائهم في السلاح من أبناء الدلتا والصعيد، ويجب أن يدمجوا في مؤسسات الدولة المصرية، ويكون منهم رجال دولة على مستوى الإدارة العليا أيا كانت وحتى منصب الوزير، رجال الدولة ورجال القبائل قادرون على محاصرة العنف وامتصاصه، وفي مرحلة لاحقة يكون الإلقاء التام للسلاح. والمعركة الفكرية هي معركة ممتدة طويلة المدى لها محاور متعددة إعلامية وتعليمية وثقافية وتنموية وسياسية. ولا بديل عن المحاولة، حتى لو لم تنجح المبادرة حاليا، فلا بديل عن النجاح مستقبلا.