الملحّن والمطرب والمنتج والموسيقار الأفضل على الإطلاق وخارج المنافسة حتى إشعار آخر كل يوم فى الساعة الواحدة ميعاد الدرس الخصوصى اليومى بتاعى، لأن فى الوقت ده إذاعة «الأغانى» بتذيع ولمدة نص ساعة أغانى محمد عبد الوهاب، فتبقى فرصة بديعة جدا إنك مثلا تسمع «قوللى عملك إيه» وبعدها «لا مش أنا اللى أبكى»، ويا سلام مثلا لو ذاعوا «لا تكذبى» بصوت عبد الوهاب، ويروحوا مشغلين بعدها مثلا «طول عمرى عايش لوحدى» أو «انسى الدنيا وريّح بالك»، وتبقى لِعبِت بقى أوى أوى لو خدوا 10 دقايق من وقت الفقرة اللى بعدها وسمَّعونا «عاشق الروح»، ودايما لما تنتهى النص ساعة دى الواحد بيبقى حاسس إنه لسه ماشبعش من صوت عبد الوهاب الرخيم وألحانه الفخمة اللى قدرت تعيش 100 سنة من ساعة ما غنَّى عبد الوهاب فى فرقة «فوزى الجزايرلى» عام 1917، وهو عنده 15 سنة، بس لحد وقتنا هذا وهتقدر ألحانه تعيش إلى ما شاء الله. الحقيقة وأنا طفل صغير ماكنتش بحب عبد الوهاب خالص، وكنت باضحك مثلا لمّا أشوفه بيغنِّى فى فيلم «رصاصة فى القلب» «المية تروى العطشان»، وقاعد يستحمّى فى البانيو، وأفتكر على طول سمير غانم فى مسرحية «المتزوجون».. الله يسامحه بقى بوَّظ لى الغنوة دى للأبد. وكنت كمان باتريق على ماما زمان لما كانت تقعد تتفرَّج على فيلم «غزل البنات»، وتيجى فى آخر الفيلم وتعيَّط أوى مع نجيب الريحانى لما بيبكى بحرقة على صوت عبد الوهاب وهو بيقول: «وعشق الروح مالوش آخر، لكن عشق الجسد فانٍ». ماكانتش بتأثّر فىّ ساعتها كلمات المبدع حسين السيد، وكنت باضحك على دموع أمى. لكن دلوقتى أنا اللى عينى بتدمَّع لما أسمع الغنوة دى بالذات ماعرفش ده تأثّرا بالغنوة ولا علشان بافتكر أمى الله يرحمها؟ وماينفعش برضه أفتكر أمى من غير ما أفتكر غنوة «ست الحبايب»، ويرن فى ودنى صوت عبد الوهاب المليان شجن وإحساس وهو بيقول: «أنام وتسهرى.. وتباتى تفكَّرى.. وتصحى من المنام.. وتيجى تشقّرى». ورغم أن فايزة أحمد أبدعت فى الغنوة دى، لكن برضه صوت عبد الوهاب مايتنسيش وما يتكرّرش. عبد الوهاب ودون شك هو المطرب والملحّن والموسيقار والمنتج الفنى الأنجح فى تاريخ الموسيقى العربية، ومن الصعب حد ياخد منه المكانة دى بسهولة. وهو شاب مراهق كان من أفضل مطربى جيله، وكان نجم الشباك سينمائيا ونجم الإذاعة بفارق كبير عن مطربى جيله ولسنين كتير متواصلة، لمّا كبر شوية وحس إنه صعب ينافس المطربين الشباب استمر فى التألق والتميّز بألحانه اللى دايما كانت ناجحة مع كل علامات الطرب فى عصره، من أول أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز وليلى مراد لحد فايزة ونجاة ووردة.. وغيرهم، ولما كبر كمان شوية وحس إن فيه ملحنين جامدين شباب ومنافستهم بقت صعبة زى بليغ حمدى والموجى وكمال الطويل وغيرهم، قرّر إنه يبقى منتج وعمل شركة «صوت الفن»، وشاركه فيها عبد الحليم حافظ، وبقى المنتج الموسيقى الأبرز فى تاريخنا الغنائى. يعنى بكل بساطة عبد الوهاب مش بس كان فنان موهوب، لكن كمان كان ذكى ومرن، وبيقدر يكون دايما ناجح ودايما متفوّق مهما كانت الظروف ومهما كان عمره. هات لى حضرتك مطرب كده فى أى زمان وأى مكان يقدر ينزّل غنوة وهو عمره أكتر من 80 سنة، والغنوة تنزل وتكسَّر الدنيا ويغنّيها العالم العربى كله، ويتسابق المطربون على شرف غنائها من بعده، طبعا باتكلِّم على غنوة «من غير ليه» وهى من كلمات المبدع جدا مرسى جميل عزيز. عبد الوهاب نفسه بقى كان بيعمل الحاجات دى إزاى؟ لمَّا قريت كتاب سعد الدين وهبة اللى عبارة عن تفريغ لحوار تليفزيونى حكى فيه عبد الوهاب قصة حياته فى حوار راقٍ وبديع بين المثقّف الرزين سعد الدين وهبة وموسيقار الأجيال، اكتشفت بعض جوانب عبقرية عبد الوهاب. عبد الوهاب كان دايما بيسمع الموسيقى المعاصرة ليه فى أوروبا وغيرها، ورغم إن ده كان صعب جدا لأن ماكانش فيه Youtube ولا Itune ولا حتى Soundcloud، لكنه كان بيبذل مجهود كبير علشان يوصل دايما للجديد فى الموسيقى العالمية، ويبذل مجهود أكبر فى إنه يستوعب الأشكال الموسيقية والإيقاعات الغربية، وكمان الآلات الموسيقية الغربية دى، ويدخّل كل ده بمهارة وعبقرية وسط مزيكته الشرقية اللى نابعة من تراثنا الموسيقى، واستغلّ ثقافته الموسيقية دى فى تطوير واضح وملموس فى مسار الأغنية المصرية. طبعا كان فيه ناس بيتهموه بالسرقة والاقتباس والكلام الفارغ ده، بس نسيوا أو تناسوا إن الأشكال الموسيقية دى موجودة قدام كل الملحنين اللى قبل عبد الوهاب واللى بعده، وإن مش أى حد يعرف يعمل المزج ده بالعبقرية دى، ويخلق منه إبداعات جديدة تماما حتى لو تشابهت فى أجزاء من ألحان غربية. عبد الوهاب كمان بيقول فى الحوار ده إزاى هو اتأثَّر بموسيقى سيد درويش، وبيقول إن أول مرة سمع فيها الشيخ سيد وهو بيغنِّى جات له حالة ذهول، لدرجة إنه قعد يجرى فى الشارع من غير ما يكون عارف هو رايح فين ولا عايز إيه! وقال حسيت كأنى باهرب من المزيكا القديمة اللى اتربّيت عليها، واللى الشيخ سيد جاى يغيّرها تماما، وحسيت كأنى اكتشفت اكتشاف جديد أو اختراع عجيب، وطبعا كان يقصد الإنجاز اللى عمله الشيخ سيد لما حوّل الأغنية من الشكل الطربى اللى مالوش علاقة بكلام الغنوة وبيكتفى بالطرب والحليات الغنائية، إلى الشكل التعبيرى اللى بيهتم بترجمة كلام الغنوة من خلال اللحن والمزيكا، ودى المدرسة اللى بنشتغل بيها لحد دلوقتى. مش هقدر طبعا فى مقال واحد أتكلّم عن عبقرية محمد عبد الوهاب وإبداعاته فى جميع مجالات الأغنية، سواء العاطفية أو الوطنية أو الدينية، وكذلك مؤلفاته الموسيقية الخالدة، وهو بالفعل مدرسة كبيرة ومعهد موسيقى عربية لوحده، وهنفضل نتعلّم منه طول عمرنا. ناس قليلين جدا فى دنيتنا دى بتفضل ذكراهم خالدة بعد رحيلهم بسنوات وسنوات، وبيفضلوا عايشين وسطنا بإبداعاتهم وأفكارهم وأعمالهم الخالدة، بيكونوا معانا وإحنا بنفرح، وبيواسونا وإحنا بنبكى، وبيونِّسونا بفنهم لما نبقى لوحدنا، وبيعلّمونا قد إيه المشاعر ممكن تغيّر حياة إنسان فى رحلته القصيرة فى دنيتنا الفانية دى، من الناس دول موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الله يرحمه. ومسك الختام المقطع الرائع ده من رائعة عبد الوهاب «من غير ليه»، وأتمنّى تكون زيى بتسمعها دلوقتى وبتفتكر قد إيه عبقرية الراجل ده: «خايف طيور الحب تهجر عشّها.. وترحل بعيد خايف على بحر الدفا ليلة شتا.. يصبح جليد خايف لبكرة يجينا ياخدنا من ليالينا.. سكة عذاب.. تاه فيها أحباب.. أحباب كتير قبلينا».