خَلَطَ النشاط المفاجئ للولايات المتحدة في سوريا، خلال الأسابيع الأخيرة، أوراق الأطراف التي كانت تتصور أنها قادرة على إدارة الأزمة السورية بدون الولاياتالمتحدة. الدخول النشط للولايات المتحدة بإرسال أسلحة ومعدات إلى "قوات سوريا الديمقراطية"، ونشر قواتها الخاصة أيضا في شمال سوريا، جاء تحت عنوان "الحفاظ على السلام وضمان عدم وقوع اشتباكات بين الحلفاء". ولكنه يبدو من جهة أخرى صراعا على مناطق النفوذ يدور في الوقت الراهن بين 4 أطراف هي روسياوتركياوالولاياتالمتحدة ونظام الأسد، بينما تراوح إيران في مكانها ملتزمة بعدة ثوابت، من بينها الدعم اللا نهائي للأسد، واعتبار "حزب الله" اللبناني ليس فقط وكيلها في سوريا، بل وأيضا جزءا لا يتجزأ من قواتها الموجودة عمليا في الداخل السوري. هذا إضافة إلى الحصار شبه الكامل لأي تحركات إيرانية وفق آليات العقوبات أو التهديد بالمزيد منها، وكذلك إمكانية استخدام القوة لإيقافها. ومن الواضح أن هناك 3 أطراف على الأقل من الأربعة المتصارعة لا تسمح لإيران بتوسيع نفوذها في سوريا لاعتبارات تتعلق بسياساتها الخارجية، وعلاقاتها بأطراف إقليمية أخرى، على رأسها دول الخليج العربي، وبالذات السعودية. وتتعلق أيضا بمناوراتها مع بعضها وبعض. لقد وصلت مصفحات وآليات أمريكية أخرى إلى غرب مدينة "منبج"، حيث يفصل نهر الفرات بين القوات الكردية في الشرق والمدعومة من واشنطن، والقوات التي توجد في الغرب وتدعمها دول عربية، بينما تقوم أنقرة بتوجيهها. ووفقا لتقارير غربية، فعلى الرغم من كون تركياوالولاياتالمتحدة حليفتين في الحرب "ضد داعش"، فإن أيا من الطرفين لم يستقر بعد على تشكيل قواته الوكيلة التي ستستعيد في نهاية المطاف السيطرة على الرقة، آخر المعاقل الرئيسية ل"داعش" في سوريا. على هذه الخلفية، تطالب قوات تركيا، وروسيا، والولاياتالمتحدة، وقوات الأسد بحقها في إملاء الشروط، وكل منها يعرف أنه طرف مهم ومؤثر، ومن الصعب تمرير أي سيناريوهات بدونه، وإن كان أضعفها قوات الأسد التي تتقلص مساحات مناوراتها في ظل جوانب غير واضحة من خريطة التعاون الروسي - التركي، وعدم الثقة الكاملة في روسيا، وتحركات الولاياتالمتحدة غير المعلنة حتى النهاية. هناك حوار وليد بين تركياوروسيا على أن تصبح بقايا قوات الأسد، وربما إلى جانب الوحدات المدعومة عربيًّا والموجهة تركيًّا، جزءًا رئيسيًّا من القوات على الأرض. ولكن الصدامات بين العرب المدعومين من تركيا والأكراد المدعومين من الولاياتالمتحدة يعمل على تعطيل هذا السيناريو الذي لا يروق أصلًا، لا للأسد ولا لطهران التي يجري تقليص نفوذها تدريجيا. ولكن الأسد الذي تتقلص مساحات مناوراته لم يعد أمامه إلا الانصياع التام لتوجيهات روسيا، التي تأمل بدورها في أي شكل من أشكال الحوار مع الولاياتالمتحدة. الصراع الرباعي الدائر حاليا بين الولاياتالمتحدةوروسياوتركيا في الأساس، إضافة إلى بقايا نظام الأسد، يشير بدرجة أو بأخرى إلى حقيقة في غاية الأهمية والخطورة: انتهاء مرحلة تحديد مناطق النفوذ نظريا، وإجراء تعديلات وإزاحات تتعلق بالوكلاء على الأرض، والدخول إلى مرحلة جديدة خاصة بترسيم تلك الحدود وتكليف الوكلاء بمهام نوعية جديدة. ولكن الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية يمر حاليا بفترة انتقالية يحاول كل طرف ملأها بطريقته، وبما يفيده في المرحلة المقبلة. ولهذا نرى روسيا مصرة على لقاءات آستانا، والغرب مصمم على لقاءات جنيف، وتركيا تحاول التوفيق بين ثلاثة أطراف مهمة، هي روسياوالولاياتالمتحدة وحلفائها الإقليميين، وفي الوقت نفسه لا تتأخر ولو لحظة في دفع قواتها إلى الأمام. وفي الحقيقة، فالتحركات التركية تخدم كلا من موسكووواشنطن، وهذا هو سبب تغاضي الطرفين عن سيناريوهات أنقرة وتحركاتها. المرحلة الانتقالية القائمة الآن، تسمح لكل من روسياوتركياوالولاياتالمتحدة بالإعلان الجزئي عن أشكال معينة ومحددة من التعاون. فقد أعلن البنتاجون أن العسكريين الأمريكيين والروس يبلغ بعضهم بعضا حول عملياتهم البرية في سوريا أكثر فأكثر، وهي آلية تعمل بفعالية كبيرة لتفادي وقوع حوادث، وكانت تستخدم في البداية لمنع وقوعها في الجو فقط. لكن مع مرور الوقت أصبحت هذه الآلية كما نراها الآن، حيث يستخدمها أكثر فأكثر أحد الطرفين لإبلاغ الطرف الآخر حول قيامه بعمليات برية في سوريا. أما لقاء رؤساء أركان القوات الروسية والأمريكية والتركية (فاليري جيراسيموف وجوزيف دانفورد وخلوصي أكار) في أنطاليا التركية يوم 7 مارس الحالي، فقد أتاح لواشنطنوموسكووأنقرة إنشاء قناة اتصال جديدة على مستوى الجنرالات لتعميق التنسيق حول تجنب وقوع حوادث وسلامة تحليق الطيران خلال العمليات في أجواء سوريا. وقال دانفورد إن لقاء أنطاليا تطرق إلى "تمهيد الظروف المواتية لإطلاق الحوار عبر قناة ذات ثلاثة نجوم (مستوى جنرالات) من أجل التوصل إلى تفاصيل كيفية تخفيف التوتر". وذلك في إشارة إلى التدابير الرامية إلى منع وقوع الحوادث بين الطيران الروسي والأمريكي والتركي في الأجواء السورية. من جهة أخرى، تسعى الولاياتالمتحدة إلى تطمين تركيا بشأن علاقتها بالأكراد، مؤكدة أن "وحدات حماية الشعب" الكردية التي تتعاون معها الولاياتالمتحدة لا علاقة لها ب"حزب العمال الكردستاني" الذي تعتبره واشنطن شأنها شأن أنقرة، منظمة إرهابية. بل وأكدت واشنطن أنها تميز جيدا بين عناصر "وحدات حماية الشعب" الكردية التي يتعاون معها العسكريون الأمريكيون عبر تحالف "قوات سوريا الديمقراطية"، ومسلحي "حزب العمال الكردستاني"، وأن هذه الوحدات تعتبر "القوة الأكثر فعالية في سوريا". وفيما يتعلق بروسيا، هي تمتلك علاقات مع الجميع بدون استثناء، أو على الأقل تحاول ذلك، إذ إن هناك فصائل كثيرة من المعارضة السورية ترفض "التعامل" مع روسيا أصلا. ولكن المهم هنا هو أن موسكو لديها علاقات جيدة مع جميع التيارات والقوى والأحزاب الكردية. وهو ما يشكل بدوره ورقة ضغط على تركيا، ويمنح روسيا مساحة أفضل للمناورة في كل الاتجاهات. روسيا تسعى بكل قواها إلى توسيع صيغة آستانا. وتم بالفعل، إرسال دعوات للأطراف ذات الصلة لحضور لقاء خلال يومي 14 و15 من مارس الحالي. وهذا اللقاء يسبق جنيف 5 الذي من المقرر أن ينعقد في 23 من نفس الشهر. ومن الواضح أن روسيا من طرف، والولاياتالمتحدة وحلفاءها من طرف آخر، تحاولان "تظبيط" خريطة مواعيد معينة لكل من الصيغتين (آستانا وجنيف): الأولى تنعقد في منتصف الشهر، والثانية بعد أسبوع من الأولى، بينما يجري انتهاك وقف إطلاق النار، والاشتباكات قائمة، ولا يهم كثيرا تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه. الأهم هو الحملات الإعلامية والسياسية التي ترافق الصيغتين، وتقدم هذه القوات أو تلك على الأرض. هذه هي ملامح المرحلة الانتقالية التي تشير بشكل أو بآخر، إلى أن نظام الأسد يفقد الكثير من مساحات مناوراته، وسيجد نفسه أمام أمر واقع يملي عليه ضرورة إبداء المزيد من المرونة والتنازلات "الحقيقية". فتقدم قوات الأسد على الأرض هو ورقة روسية أصلا، وتتعلق بسيناريوهات موسكو خلال المرحلة الثانية المقبلة في صراعها مع الولاياتالمتحدةوتركيا في سوريا. وإذا كانت موسكووواشنطن تلمِّحان بمخاوفهما من إمكانية وقوع اشتباكات بين القوات التركية والقوات المدعومة من أنقرة مع "وحدات حماية الشعب" الكردية، فإن هذه المخاوف غير موجودة بشأن الاشتباكات التي وقعت عمليا بين الأولى وقوات الأسد. وهذا يحيلنا بدرجة أو بأخرى إلى أن المرحلة الثانية من الصراع في سوريا ستتشكل على أسس جديدة تماما، وعلى تحالفات قد تفاجئ الكثيرين. هنا نصل إلى أحد مؤشرات الدخول إلى تلك المرحلة الثانية، حيث أعلن المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، ولأول مرة منذ توليه هذا المنصب، أنه لا يمكن إجراء انتخابات في سوريا في ظل وجود الحكومة الحالية. وأوضح المسؤول الأممي أنه "لا يمكن أن يكون هناك دستور جديد أو مفوضية جديدة لإنجازه في ظل بقاء كل شيء على حاله، ولا يمكن أن تجرى الانتخابات التي تسيطر عليها نفس الحكومة"، مؤكدا أن مسألة الانتقال السياسي ما زالت في صلب محادثات جنيف 5 المنتظرة في 23 من مارس الجاري. وفي الوقت نفسه شدد على أن "اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا، الذي تم التوصل إليه في آستانا لا يزال صامدا، وأن تخفيف وقف العنف سيساعد في محادثات جنيف". وذلك في إشارة مهمة وخطيرة إلى أن هناك أطرافا تنتهك الهدنة عمدا لإفشال أجندة جنيف التي تتناول أحد البنود المهمة التي تثير قلق طهران والأسد وروسيا. وإن كانت الأخيرة لديها مخارج ومداخل للتعامل مع مسألة "الانتقال السياسي" في سوريا. فهي في نهاية المطاف التي قدمت مشروع دستور لدمشق، استباقا لأي قرارات أو نتائج بهذا الصدد عن جنيف. وفي كل الأحوال، فقد انتهى جنيف 4 إلى تحديد ما سموه "4 سلال"، تشمل وضع دستور جديد وإجراء انتخابات وإصلاح الحكم، بالإضافة إلى السلة الرابعة وهي مكافحة الإرهاب. ولكنها سلال لا يمكن تحقيق أيٍّ منها بدون وقف إطلاق النار وتثبيت الهدنة، وهو ما لم يتم إلى الآن. بينما تصر روسيا والأسد وطهران على ضرورة تقديم "السلة الرابعة" على بقية السلال، معتبرة أن مشكلة سوريا في الإرهاب فقط.