هل كان مثل باقى أولاد تسعة، أحيانا ينام أو يرد على تليفون أو يشرب الشيشة ويترك القلم لحظات، أنا فى الحقيقة لا أتخيله إلا وهو يكتب ويكتب ويكتب، وبعد أن يفعل كل ذلك يسرح لحظات قليلة، ثم يلتقط القلم يكتب ويكتب ويكتب. أحدثكم عن هذا العبقرى الذى يقطر خفة ظل مغموسة فى عصير مصرى خالص ومصفًّى من الشوائب لا يمكن أن تخطئه الأذن ولا المشاعر. إنه العبقرى أبو السعود الإبيارى الذى لم ولن يطاوله أحد فى تلك الغزارة الإبداعية. الشاعر والكاتب الدرامى السينمائى والمسرحى والصحفى والزجال ومؤلف الأغانى، وكانت له بصماته العميقة، ورغم ذلك يتجاهله الإعلام المصرى، وكأنه لم يمر على هذه الأرض. لم يلتفت فى الحقيقة أحد إلى تقييم إبداعه المتعدد الأوجه والممتد فى كل المجالات، والذى يصلح بمفرده فقط لكى يصنع تاريخ بلد بكاملها، وليس فقط سجلا حافلا لفنان يستطيع أن يجلس بأريحية «متأنتخ» على القمة. أستعيد معكم هذا المونولوج الذى يلخص الحياة بكلمات تجمع بين البساطة والعمق «كلنا عايزين سعادة/ بس إيه هى السعادة / ولا إيه معنى السعادة/ قوللى يا صاحب السعادة/ قولى قولى» ما أروع أداء توأمه الفنى إسماعيل يسن الذى وضع أيضا اللحن وهو يمزج بين لمحة الشجن فى افتقاد السعادة وومضة النشوة بامتلاكها. يلخص شاعرنا فى كلمات قليلة هدف الإنسان فى كل زمان ومكان أنها السعادة التى تبدو زئبقية حتى من يُمسكها بين أصابعه يكتشف بعد لحظات أنه يقبض على الهواء. هل نحن حقًّا نعرف ما الذى يسعدنا، ولهذا جاءت الآية فى الذكر الحكيم «ولسوف يعطيك ربك فترضى» السعادة هى عين الرضا وهى العمق الفكرى الذى استند إليه الإبيارى بدون أن يعلنها صريحة ومباشرة، فلقد تغلغلت فى ثنايا حروف المونولوج. لا أحد يتذكره لا يوم ميلاده ولا فى ذكرى رحيله، واليوم بالمناسبة لا هذا ولا ذاك، فهو مواليد 9 نوفمبر 1910 ورحل 17 مارس 1969. نحو ستين عامًا عاشها، أى أننا نتحدث عن أربعين عامًا قدم فيها كل هذا الخير الفنى. كنت أستمع بالصدفة إلى إذاعة الأغانى وهى تقدم مونولوجًا آخر «دنيا تياترو كل ما تمشى تلاقى تياترو» التى استلهمها من يوسف وهبى، وكان يوسف وهبى قد استعارها من وليم شكسبير «وما الدنيا إلا مسرح كبير». كثيرًا ما ننسى هؤلاء الذين أسعدونا، لأن من سبقونا لم يضعوا خطًّا تحت أسمائهم، أشار مسلسل «أبو ضحكة جنان» الذى كان يروى حياة إسماعيل يسن، وبالتالى كان لأبو السعود الإبيارى قسط وافر منها. ألمح المسلسل الذى شارك فى كتابته أحمد ابن أبو السعود الإبيارى إلى أن هناك فى الصحافة من كانوا يناصبونه العداء وأظنه كان يقصد الكاتب الساخر الكبير جليل البندارى، لا أتصور أن البندارى كان يملك كل هذه القوة ليمحو اسم الإبيارى، الذى كتب من الإبرة إلى الصاروخ. من أفلامه «إسماعيل يسن فى الطيران» و«طاقية الإخفاء» و«سكر هانم» و«إنت حبيبى» و«المجانين فى نعيم». وهو صاحب أشهر الإفيهات «أنا جنبك أبقى مارلين مونرو و«يا صفايح الجبنة النايحة، يا براميل الزبدة السايحة». ثم الأغنيات التى لا يمكن أن تنسى «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلى وعيونى لما بكوا دابت مناديلى»، رجاء عبده، و«قالوا البياض أحلى ولا السمار أحلى» سعاد مكاوى، الأغنيتان من تلحين عبد الوهاب، أو «يا حسن يا خولى الجنينة» شادية، ومحمود الشريف الذى ظل يذكر أن أبو السعود هو أول من دعمه كملحن ومنحه أوبريتًّا بدون أن تعلم صاحبة الصالة بديعة مصابنى، واستمعت إليه باعتباره تلحين اسم آخر وعندما أعجبها قال لها إنه العبقرى محمود الشريف. هل تتذكرون أوبريت «المجانين» الذى يبدأ «وسع وسع للعقلاء» تلحين عزت الجاهلى، الذى يقول فى كلماته بحالة عبثية «خشى يا نحلة من البلكون اربط يا غراب الببيون/ شفت الأرنب ويّا القطة راكبين تاكسى بيقولوا نو». خد عندك أيضا عبد الغنى السيد وموسيقى محمود الشريف «يا وله يا وله» أروع أغنية شعبية «يا بتاع التفاح لون تفاحك راح فى خدود ست الكل/ يا بتاع الياسمين مين يندهلك مين واحنا معانا الفل/ يا بتاع الرمان رمانك دبلان بص علينا وطل/ ضحكة سنتها يا وله وإيديها يا وله وعنيها يا ولة كلها يا وله/ إرحمنى يا وله». الكلمات لها مذاق حسى، وفى الثقافة الشعبية تحمل غزلا جنسيا مباشرًا من المستحيل أن تغنَّى، ولكن عبقرية الإبيارى أحالت المستحيل إلى ممكن «الله الله.. يا أستاذ!!».