تدخل مها إلى المبنى الحكومى العتيق، ما إن تخطو داخله حتى تشعر بالإعياء يحيط بها من كل جانب، الإعياء الذى بداخلها يتناسق مع الألوان الكالحة التى تخيم على المكان.. والإعياء البادى على السلالم التى تخطو فوقها وتشعر بها تهتز تحت قدميها.. هى تريد الإسراع وتشفق على درجات السلم من خطواتها.. ألوان الموظفين واحدة.. تشعر أن وجوههم وملابسهم بنفس لون الحائط ورطوبته.. ربما بلا لون. إحساس ثقيل يخيم على الوجوه والمكان. تجتاز البوابة الثانية للمبنى، وتبحث عن بطاقة إثبات الشخصية فى حقيبتها المكتظة لتظهرها لرجل الأمن، تنظر له بنفاد صبر: «مها حسنى.. فى الحسابات.. الدور السابع وبقالى هنا أربع سنين مش محتاجة يعنى أطلع كارنيه».. تجدها أخيرا وتزفر فى ضيق ويتبعها رجل الأمن هامسا باللعنات. نبضات قلبها تتسارع، يزداد توترها، ما كل هذه الإجراءات؟.. هل تعمل بمكان مهم لهذه الدرجة؟ تبتسم فى سخرية مريرة.. هل حقا أضاعت من عمرها كل هذه السنوات.. هنا؟ تصطدم عيناها بساعة الحائط فوق المصعد البعيد.. تمام العاشرة صباحا.. تحبط بشدة وتكاد تبكى لرؤيتها، لكنها معتادة على ذلك كل يوم، فلماذا المفاجأة؟ تهرول حتى تلحق بمصعد الأدوار الفردية وعيناها على الساعة.. طابور طويل لا يقل عن 12 موظفا أمامها.. والمصعد لا يأتى وصيحات الحنق تتصاعد من الطابور.. تشعر بالارتياح رغم كل شىء.. دقيقتان وتصل إلى المكتب، سيمر الأمر بلا مشكلات.. تتنهد.. تحاول تهدئة نفسها.. يتأخر المصعد.. تلمحها.. إنها مدام فاطمة.. مديرتها.. أمامها فى الطابور.. يفصلهما خمسة موظفين.. ينبض قلبها بالخوف من جديد وتنكمش لتختفى داخل المعطف.. تتلفت حولها، تنظر إلى حذائها العالى، تنظر إلى مدام فاطمة بطرف عينها، تشعر بالكراهية والخوف تجاه كل شىء.. تنظر إلى المصعد.. ما زال متأخرا.. تتخذ قرارها وتنطلق كالسهم نحو السلم وتخلع حذاءها عند أولى درجاته.. تجرى ودقات قلبها تتزايد. تصل إلى المكتب بعد دقائق كاد قلبها يتوقف فيها.. تجلس بعد أن تلقى تحية غير مفهومة إلى زميلها وتنظر إلى الأوراق. بعد دقيقة تدخل فاطمة: «آسفه على التأخير يا جماعة.. المبنى النهارده فظيع.. وإلا الشوارع.. لعنة.. انتو وصلتو بدرى إزاى؟». يبتسم الزميل فى زهو.. وينظر إلى مها باستخفاف.. تحاول مها أن تستجمع نفسها.. تنظر إلى فاطمة بابتسامة تتأرجح بين الشجاعة والاستعطاف: «أنا لسه داخلة من دقيقة يا مدام».