رفعت رأسها وتطلعت إلي المبني المستدير يرتفع عاليا في السماء. تنهدت. هذه هي ثالث سنة تأتي فيها لتقف أسفله, ثالث مرة تتكبد المشوار إليه من حلوان حيث تقيم منذ خمس سنوات, بعد أن اهتدت إلي شقة صغيرة تطل علي الحوش الخلفي للعمارة التي يمتلكها مقاول, زوجته من البلدة التي ولدت ونشأت فيها فأقنعته بأن يؤجر لها الشقة بمبلغ بسيط. قرأت الإعلان في الجريدة منذ أسبوع. أخبرت صديقتها سوسن أنها ستتقدم للمسابقة المعلن عنها فيها, فسألتها عندك واسطة؟ ظلت صامتة, شقت طريقها من قريتها في الغربية إلي كلية الإعلام بشق الأنفس, فمن أين لها بالواسطة التي تتحدث عنها سوسن؟ تأملتها صديقتها لحظة ثم قالت ماعلينا. علي الأقل غيري الملابس التي ترتدينها. إنها لا تصلح للمثول أمام اللجنة. لازم تبشرقي عيون الأعضاء. لست مثلي قصيرة, وبدينة, وسمراء. قوامك جميل, ولحمك أبيض. لماذا تخفينه؟ لنذهب سويا إلي المحل الذي أعمل فيه يمكن أن أقنع صاحبته بأن تهديك بعض الملابس, فهي تحبني. تقول إنني بجحة لكن دمي خفيف, وأن النساء اللائي تأتين إلي المحل تعشقن الثرثرة معي هبطت من شقتها قبل السابعة صباحا واستقلت القطار إلي محطة باب اللوق ثم عبرت المسافة إلي المؤسسة علي قدميها لتجد أن العشرات من الشباب سبقوها إلي الطابور. وقفت فيه علي غير عادتها صاعدة بجسمها علي كعبي حذائها العاليين الرفيعين, والألم يسري في ساقيها فتنقل ثقلها من قدم إلي قدم, الجو حار والعرق يختلط بالمكياج, أشرفت عليه سوسن وهي تضعه علي وجهها. تخرج مناديل الورق من حقيبتها وتمر بها علي وجهها بحرص, ثم تنظر في مرآة البدارة الصغيرة التي ابتاعتها من محل للعطور في شارع لبنان. يحط الذباب الكسول علي ذراعيها وساقيها فقد ارتدت بلوزة كات وجوبة لاتغطي ركبتيها. تهشه بحقيبتها لكنه يرفض أن يقلع عنها كأنه أرهق من الطيران في الجو اللزج, الحار المحمل بعادم السيارات الهاربة إلي الطريق الجانبي الذي يمتد فيه الطابور, بحثا عن النجاة من الزحام في شارع الكورنيش, تشعر برغبة ملحة للهرش تحت المشدات, وبين ساقيها, لكن لاتوجد مراحيض في هذا المكان. تشرئب لتري المسافة التي تفصلها عن المدخل فالطابور يتقدم ببطء.. تحاول أن تشغل نفسها بالفرجة علي الباعة, وضعوا بضاعتهم علي عربات تحمل أكوام الجوافة, والعنب, والتين الشوكي, أو حزم الخس, والجرجير, والكرفس, والكزبرة الخضراء, أو جوارب وقمصان مهربة من الصين, أو أحزمة ومحافظ من البلاستيك أو الجلد. تتبع امرأة تدفع أمامها مقعدا متحركا يجلس عليه صبي شاحب الوجه ساقاه تتدليان مثل عودين من الكبريت. تتأمل شعر المرأة المجعد, الرمادي اللون وعينيها فيهما نظرة لا تلوي علي شيء, نظرة مخدرة من سنين الحزن, فيخطر علي بالها أنها في يوم ليس ببعيد ستصبح مثلها تشعر بالرعب فتنصرف عنها بسرعة إلي مجموعة من الشباب يرتشفون أكواب القصب الفوار, ويتضاحكون أمام المحل الذي ابتاعها منه. تشعر بالعطش لكنها تخشي أن تنتابها رغبة للتبول, فالطابور لايتحرك إلا خطوتين قبل أن يتوقف من جديد.. الضجيج يصم أذنيها. يصعد من شوارع المدينة مثل الرعد. تريد أن تبكي, أن تصرخ بأعلي صوتها فما الذي جعلها تقف مرة أخري في هذا الطابور؟ في بعض الليالي تحلم به. يأتيها كالكابوس. تري نفسها واقفة فيه ومن ورائها رجل يمسك بعصاة ويضربها بها. تهرب منه لكن الطابور ينفتح كالذراعين ليطبق عليها. تستيقظ شاعرة أن أنفاسها مكتومة. تذهب إلي الحمام وتغسل وجهها بالماء البارد حتي لاتعود إلي النوم خشية أن يعاودها الكابوس من جديد. ما الذي يجعلها تعود لتقف فيه مرة أخري؟ الأمل؟ أليس من الأفضل أن تفقد هذا الأمل نهائيا حتي تستريح؟ تتلاحق في خيالها صور الطوابير التي وقفت فيها. تري نفسها طفلة نحيلة في طابور العيش. ترتدي شبشب زنوبة ويدوسون علي قدميها, أو يدفعون بها إلي الخلف. تتأخر في العودة إلي البيت فيصفعها أبوها بيديه الخشنتين. في المدرسة أثناء طابور الصباح تزعق الناظرة البنات اللائي تأتين إلي المدرسة وأيديهن قذرة سنعيدهن الي البيت ترفع عينيها إلي السماء داعية ربها ألا تلاحظ الأبلة فردوس أن تحت أظافرها بقايا تراب الغيط. في طابور المستشفي يوم أن أصيب أبوها بالغرغرينا في إحدي قدميه, وطوابير أخري كثيرة تجعلها تشعر أن حياتها كلها طوابير تنتظر فيها شيئا غامضا لا تعرف كنهه. كانت الساعة السادسة مساء عندما وجدت نفسها في الصالة أمام الغرفة التي انعقدت فيها اللجنة, ففي كل مرحلة هناك وقفة للطابور. مرة عند المدخل الرئيسي للعمارة التي توجد فيها المؤسسة حيث خضعت ساقاها لفحص متأن من عيون رجال الأمن. مرة في البهو العريض الممتد في الدور الأرضي. مرة أمام المصعد الذي ارتفعوا فيه إلي الطابق العشرين كان يتوقف طويلا في الأدوار صعودا وهبوطا قبل أن يصل إليهم, والآن في الصالة أمام غرفة اللجنة ينفتح بابه بين الحين والحين ليسمح بدخول واحد أو اثنين من المنتظرين. عندما يفتح تلمح الأعضاء جالسين وأمامهم زجاجات المياه المعدنية, والعصائر, وأطباق عليها جاتوهات وساندويتشات صغيرة. أخذت تقترب من الباب خطوة بعد خطوة. كادت أن تصل إليه عندما تردد صوت يقول اللجنة انتهت من عملها اليوم. من لم يدخل إليها يحضر غدا في الموعد نفسه, ومعه الأوراق المذكورة في الإعلان لاتعرف كيف هبطت علي سلالم المبني, ولا كيف خرجت منه لتجتاز الشارع العريض شاقة طريقها بين سيل السيارات, ولاكيف سارت إلي أن وجدت نفسها تخطو فوق كوبري الجلاء أحست بالوهن ينقض عليها فجأة, فأسندت نفسها علي الحاجز وحملقت في المياه تنعكس فيها بعض أضواء الشاطيء في لحظة بدا لها أنها تري فيها وجه أمها وهي تمد إليها ذراعيها, كأنها تريد أن تحتضنها, أن تأخذها معها إلي الراحة الأبدية التي انتقلت إليها. سرت في جسمها قشعريرة باردة, قشعريرة الاقتراب من الموت, قشعريرة الرعب منه. أحست بالناس يمرون من خلفها, ترتفع ضحكاتهم في الليل فأفاقت. انتزعت نفسها من الحاجز, واندفعت بخطوات سريعة متلاحقة علي الكوبري, كأنها تهرب ولأول مرة تهرب من حضن أمها, أمامها كان يسير طابور من الشباب, والشابات يرفعون أعلاما ملونة, ويهتفون هتافات منغمة لم تلتقط كلماتها. امتدت إليها يد تحمل علما. ترددت لحظة ثم أمسكت بها لتجد نفسها سائرة معهم دون أن تعرف إلي أين.