لقد أثار الحديث الهاتفي بين الرئيس الأمريكي المنتخب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في نوفمبر 2011 الكثير من التحليلات والتوقعات، واعتبرته أوساط سياسية ودبلوماسية روسية يعكس إمكانيات تحول ليس فقط في علاقات البلدين، بل ويعكس أيضا مقدمات لتهدئة الأمور بعد أن أوصلتها إدارة الرئيس باراك أوباما إلى نقطة الغليان على مستويات عديدة وفي مناطق مختلفة، وفي مجالات حساسة، ليس فقط مع روسيا، وإنما مع العديد من دول العالم، وبالأخص الدول الحليفة لواشنطن. وقد حددت هذه المكالمة الهاتفية كفتي الميزان السياسي بين موسكووواشنطن، والوزن الروسي في إحدى الكفتين. وكما أشار الكرملين فهذه المكالمة تضمنت ثلاثة محاور أساسية: - توحيد الجهود في محاربة الإرهاب. وهي أرضية مهمة من وجهة نظر روسيا، بدلا من توسع حلف الناتو شرقا، وعسكرة أوروبا، وهدم مبادئ التوازن الاستراتيجي في العالم، والمغامرات العسكرية التي لم تسفر إلا عن تهديد الأمن الإقليمي وانهيار الدول وتفككها. - رغبة موسكو واستعدادها لبناء علاقات شراكة مع الإدارة الجديدة للولايات المتحدة. وهو ما يجب أن يقابلهما استعداد ورغبة من إدارة ترامب على أساس التكافؤ واحترام المصالح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. - ضرورة العمل المشترك والفعال من أجل تطبيع العلاقات وتشكيل قاعدة متينة للعلاقات الثنائية عن طريق تطوير مكوناتها التجارية – الاقتصادية. هذه المحاور الثلاثة تراها موسكو كما هي مذكورة أعلاه. وهذا لا يمكن أن يعطي أي ضمانة لاعتماد واشنطن هذه النظرة أو وجهة النظر أو الاعتراف بها أو الاتفاق معها. والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه بتلقائية: هل سيتمكن ترامب من العزف على هذه المفاتيح بنفس الحنكة والعبقرية اللتين وصل بهما إلى البيت الأبيض؟ وبعيدا عن وسائل الإعلام وتوقعاتها السطحية، هناك تقارير مهمة تتحدث عن أن ترامب الذي رأيناه إبان الحملة الانتخابية مختلف تماما عن ترامب الذي بدز العمل في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض بعد أن تسلَّم مهامه وأصبح مسؤولا عن كل كلمة ينطق بها. وبالتالي، لا توجد أي ضمانات للتفاؤل أو دوافع للتشاؤم. هناك فقط ملفات خلافية عالقة، سواء في أوكرانيا أو في سوريا أو في شرق أوروبا أو في منطقة البلطيق أو في آسيا الوسطى، أو في مجال مكافحة الإرهاب، أو في مشاريع الدرع الصاروخية وتوسع حلف الناتو شرقا.
لقد تعمَّد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أن يضع خَلَفَه ترامب أمام تحديات كثيرة. ففي مؤتمره الصحفي، في 14 نوفمبر 2016 تناول أوباما عدة ملفات: - الشأن السوري، حيث شدد على أن القيام بعملية عسكرية في سوريا على غرار ما كان في ليبيا، أمر مستحيل، لأن الوضع في سوريا مختلف تماما، وأن الوضع أكثر تعقيدا بكثير حيث يوجد هناك وكلاء يمثلون دولا أخرى. - الحرب على داعش، حيث رأى أن الأولوية الرئيسية للأمن القومي الأمريكي في قتال الجماعات المسلحة المتمثلة بتنظيم "داعش" في كل من العراقوسوريا. - حلف الناتو، حيث أكد على أن ترامب ملتزم بالحفاظ على العلاقات الاستراتيجية لولايات المتحدة، ومن بينها مع حلف الناتو. - الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية، حيث اعتبر أنه من غير المجدي التراجع عن الصفقة النووية مع إيران، معترفا بأن تنفذ التزاماتها طوال أكثر من سنة. - المهاجرين غير الشرعيين، حيث نصح ترامب بالتفكير طويلا وبشكل جدي قبل سحب الإقامة من المهاجرين غير الشرعيين، وذلك لأسباب إنسانية. هذه هي "روشتة" أوباما الخطيرة والمصحوبة بالتحذيرات، أو ربما بإدانات لترامب بأثر رجعي. وقد قال أوباما على وجه الدقة: "إن ترامب سيجد أن تلك الجوانب من مواقفه أو قوالب تفكيره التي لا تتجاوب مع الواقع ستتطلب تغييرا سريعا.. آمل بأنه سيتمكن من أن يستخدم تلك المواهب، التي سمحت له بتحقيق إحدى أكبر المفاجآت السياسية في التاريخ، بما يصب في مصلحة الشعب الأمريكي بأسره". وفي الوقت الذي يمكن أن يكون أوباما غير صادق عمليا في ما يقوله، أو أنه يقوله لأسباب أخرى تماما، فإنه من الواضح أيضا أنه لا يطرح البنود الخمسة أعلاه فقط من أجل النصح، لأنه ببساطة فشل في تحقيق كل هذه البنود تقريبا، وإنما يطرح أمرا أكثر خطورة يتضمن محورين: الأول، ضرورة تغيير تفكير ترامب. والثاني، مواهب ترامب التي سمحت له بتحقيق أكبر مفاجأة سياسية في التاريخ. هذا ما أراد أوباما أن يبعث به إلى المجتمع الأمريكي، وإلى العالم أجمع. ولكنه ليس بالضرورة أن يكون محقا أو على طريق صواب. لأن خطاب أوباما هذا يلخِّص خوف الديمقراطيين والجمهوريين معا من ترامب الذي جاء شكليا ليمثل الجمهوريين، ولكنه على أرض الواقع، جاء لتغيير أمريكا من الداخل، لأنه جاء عمليا ليمثل حزبا غير موجود. وهذا الحزب، الذي يحمل العقيدة "الترامبية"، يقف ضد "المؤسسة الأمريكية" ككل، وهو ما يشكل خطرا على الحزبين معا. ما يجعلنا نقف أمام إرهاصات "العالم الجديد" المقبل مع ترامب و"الترامبية" الأمريكية التي أصبح لزاما عليها أن تُرسي قواعد جديدة للعبة، حتى وإن كان ذلك لا يرضي الأيديولوجيتين الديمقراطية والجمهورية، أو إذا تحرينا الدقة، لا يرضي المؤسسة الأمريكية بوجهيها الديمقراطي والجمهوري. إن أوباما لا يعترف فقط بعبقرية ترامب، بل وأيضا بخطورة هذه العبقرية. ووفقا لمقال مهم للكاتب الصحفي الروسي سيرجي ستروكان بصحيفة "كوميرسانت" الروسية، فإن ترامب "تفوق على الساسة المحترفين، بفضل إحساسه الصائب فى إدراك متطلبات أسواق البناء والإحساس بها. إذ أدرك نمو وتعاظم رفض قواعد اللعبة القديمة داخل المجتمع الأمريكي، واكتشف علامات التقادم والاستهلاك التي لم يشر إليها أحد حتى قبل بضعة أشهر في العالم، ولا حتى في المجتمع الأمريكي". وربط الكاتب الروسي بين نجاح ترامب، وبين الدور المهم الذي لعبته الملايين الهادئة والمتربصة، من "كادحى أمريكا" الذين يطلق عليهم أحيانا فى الولاياتالمتحدة تسمية مهينة هي أصحاب "الرقاب الحمراء" (red necks)، والذين سعت وسائل الإعلام وعلماء الاجتماع وغيرهم، إلى تجاهلهم حتى آخر لحظة، حيث توقعوا حتى عشية الانتخابات فوز مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. هذا يعني أن ترامب جاء ليغير قواعد اللعبة التي لا يمكن أن تستمر وفق القوانين القديمة، سواء في الداخل الأمريكي أو في الخارج الكبير الذي تعتبره الولاياتالمتحدة مناطق نفوذ لها. إن أوباما يحذر من ذلك تحديدا. وفي الوقت نفسه يضع المزيد من العراقيل أمام ترامب، ويقدم له في نفس ذات الوقت "روشتة" تحافظ على نفوذ الكتل القديمة في الولاياتالمتحدة، وعلى بناء عالمي قديم يتناسب مع تفكير أوباما وأمثاله ممن يشكلون الكتل التقليدية في المجتمع الأمريكي. ولكن الترامبية جاءت لتهز هذا البناء القديم، وتستجيب لتطلعات قطاعات يجري تهميشها وإهمالها وتجاهلها في الداخل الأمريكي من جهة، وقطاعات مماثلة في الدول الأخرى أيضا. وهذه التحولات "الترامبية" الجديدة مرهونة بعامل الزمن وبتوازن القوى في الداخل الأمريكي، وفي الساحة الدولية ككل. كما أنها لا تعني أبدا أن يصبح ترامب "تاجر العقارات" العابر للقارات نصير الفقراء والكادحين وأصحاب "الرقاب الحمراء". كل ما في الأمر أن ترامب كتاجر عقارات استطاع أن يقرأ المشهد الداخلي الأمريكي بفهم وإدراك وعبقرية، وأن يفهم المشهد الدولي في العديد من جوانبه وتناقضاته، ويظهر قدرة على إمكانية التعامل معه واستخدامه، وربما أيضا في إعادة تشكيله وتوجيهه.