(1) عندما كان يتراءى لشباب القرية من على بعد خيط ضوء رفيع يأخذ فى الوضوح كلما اقترب، ويترامى إلى أسماعهم صوت صفير وهم يتسامرون تحت ضوء القمر فى غيط حميد الملاصق للحاجز الزلطى الواقع بجوار شريط السكه الحديد غرب القرية كانوا وقتها يعرفون أن قطار الحادية عشرة قد وصل، وأن الليل قد قارب على الانتصاف، وأنه عليهم الآن أن ينصرفوا إلى بيوتهم.... يلّا يا جماعة... ورانا أشغال الصبحية، ولّا ناويين تدوها تعسيلة؟! قالها ابن حميد، وقام ينفض جلبابه من النجيل العالق به، وقام فى إثره السامر. (2) دنا فؤاد من خليل وجذبه من زيل جلبابه يدعوه أن يبطئ فى القيام وينتظر حتى ينصرف الجميع؟! نظر إليه خليل بنظرات مستفهمة سرعان ما تبددت عندما راح فؤاد بصوت فيه استعطاف يتكلم.... بلاش قمر يا خليل.... عشان خاطرى؟! اغتاظ خليل وهبّ واقفًا لولا قبضة فؤاد التى تتشبث بزيل جلبابه فى محاولة منه لإثنائه عن طرق باب قمر، وأنه يمكنه أن يطرق أى باب غيره! إنت مش بتموت فى نجات...؟! رد خليل بحسم.... الجواز حاجة، والموت فى نجات حاجة تانية! خلاص... بلاش نجات... شوف غيرها... بس بلاش قمر! وليه ما أخدش قمر؟! أصل فيه.. فيه بينى و... وبين... ما أقدرش... ما أقدرش يا خليل؟! بضيق سأل خليل... فيه إيه يا فؤاد... تكونش بت...؟! ثم فجأه سكت عن الكلام وسرعان ما عاد ليواصل... دا كلام فارغ... قمر هاتبقى مراتى، ومش هاتحب حد غيرى! (3) قرأ خليل فى حضرة المقربين من الأهل والخلان فى المندرة مع الحاج نور الدين فاتحة قمر، وتحددت ليلة الخميس لتكون ليلة الدخلة! وبعد أن شرب خليل الشربات التى جاءت بها قمر على صينية من النحاس تدفعها بها أمها وتحثها على التقدم، وهى قمر تتقدم خطوة وتتأخر خطوات، يتصبب جبينها عرقًا والصينية تكاد تسقط من يدها وهى ترتعش؟! أخرج خليل حافظة نقوده، ووضع على الصينية ورقة بخمسين جنيهًا وقال.. دى نقطتك يا قمر... يا ست الستات! وعلى عتبة الدار رفع بندقيته، وأطلق فى الهواء عدة أعيرة نارية ابتهاجًا بفوزه بقمر! (4) تخلفت قمر عن طابور البنات العائدات من الموردة يتبخترن ويتضاحكن وعلى رؤسهن تتمايل الجرار، وتحت شجرة السنط التى تساقطت وتناثرت تحتها الأشواك والأزهار الزابلة... أنزلت من فوق رأسها الجرة، وجلست لفؤاد الذى كان ينتظرها تبكى؟! لم تقعد معه كثيرًا كما كانت تقعد من قبل، ولم يدم لقائهما هذا الذى اختلساه من عيون الناس إلا دقائق معدودة، ثم قامت بعد ذلك وعيونها المحمرة ونظراتها المنكسرة تتشبث بفؤاد وتستحلفه فى محاولة منها لأن تنتزع من بين صمته وعدا منه بأنه سوف يتصرف! (5) كان خليل آتيًّا يتبختر فى الطريق، يطوح فى الهواء ويضرب بعصاه، ينط ويقفز بعيدًا عن كل بقعة ماء تقابله خوفًا على زيل جلبابه الإسموكن وحذائه الأبيض من الاتساخ. عندما لمحه فؤاد الذى كان يحمل حقيبة سفره بعد أن اتخذ قرار الفرار من القرية قبل أن تطلع عليه شمس يوم الخميس حاول أن ينعطف ويتوارى بعيدًا عنه، إلا أن خليل بادره قبل أن يهم بالاختفاء... إنت مسافر يا فؤاد... مش كنت تستنى لما تحضر فرحى... ولّا عاوز الكلام اللى اتقال عليك يطلع صح...؟! سقطت الحقيبة من يد فؤاد، واحمر واصفر وجهه، وبحروف مرتبكة وكلمات مرتعشة سأل... ك... ك... كلام... إى... إى... إيه.. ياخ... خ... خليل؟! بيقولوا قال إيه... قال أنا خطفت منك قمر، ومن يوميها قال وإنت عاوز تسيب البلد وتطفش...؟! (6) كانت قمر تجلس فى الكوشة منكمشة، جسدها الزابل يرتعش تحت ثوبها الأبيض... لم تفلح المساحيق فى إخفاء صفرة تعلو وجهها الشاحب، أو ينجح الكحل فى إيقاظ جفونها العليلة..؟! طرقات قلبها تزداد وتعلو كأنها فى صراع مع الأكف التى تصفق والأيادى التى تطرق على الطبلة... دوت فى الخارج طلقة نارية، وترامت إلى الأسماع أصوات جلبة رجال وشباب يتدفقون إلى صحن الدار، حيث تقام الكوشة إيذانًا بمجىء العريس! انكمشت قمر وغاصت فى الكرسى تتشبث به، تود لو أنها تتوحد فتصير هى والكرسى سواء! طلقة ثانية دوت فى صحن الدار، ثم ظهر خليل تزفه طائفة من ذويه... تقدم بجلبابه الإسموكن وحذائه الأبيض صوب قمر نافخًا صدره مثل الديك الرومى، وهو يلعق فى شاربه، وكأنه يعلن عن رجولته! قبض على يد قمر، وانتزعها من بين البنات الملتفات حولها سار بها وهو يشق جموع الحاضرين، وداخل الحجرة زج بها وأوصد عليهما فى عيون البصاصين الباب! (7) كان صحن الدار يمتلئ بالمدعويين من أهل القرية، وهناك فى ركن جانبى ينكمش فؤاد! طال الترقب وطال الانتظار وخيّم الصمت على المكان... حتى الفوهات التى كانت مصوبة إلى أعلى نكست، والزغاريد التى كانت تدوى فيرتج لها صحن الدار، أصابها الخرس؟! تقدمت أم العروسة وراحت تطرق على الباب بعنف، وهى تصيح وتزعق اخرج يا خليل... طمنا... الناس قلقانة؟! لم يخرج خليل، غير أن الباب فتح ودلفت إلى الداخل أم العروسة، لم تمكث غير برهة قصيرة، خرجت بعدها مكفهرة الوجه تهرول وتشق جموع الحاضرين، ثم عادت يتبعها زوجها الحاج نور الدين ودخلا غرفة خليل معًا؟! دقائق وخرج الحاج نور الدين، وهو يلملم فى عباءته ويتمتم ويستعيذ بكلمات غير مفهومة؟! وسرعان ما عاد يهرول، وفى يده ورقة مطوية... دلف إلى الحجرة... لم يعبأ بطرف عباءته الذى علق بمسمار بارز فى مقدمة الباب، دقائق وظهر خليل يتصدر فوهة الباب وهو يبرم فى شاربه... يمسك بمنديل أبيض تتناثر عليه بقع الدم الحمراء؟! اشرأب رأس فؤاد وجحظت عيناه وهو يتطلع إلى بقع الدم الحمراء مشدوها تعلو وجهه الدهشة والحيرة وترتسم عليه علامات الاستفهام؟! دوت فى صحن الدار زغرودة فانتعش الرجال، وقاموا على إثرها ورفعوا فوهات بنادقهم، وأمطروا سماء القرية بوابل من النيران! (8) تسحب فؤاد وتسلل من صحن الدار خارجًا لا يدرى وجهته فاصطدم بنفرين من أهل القريه يتحادثان خلسة فى ما بينهما.... بيقولوا إن قمر طلعت مش تمام، وإن خليل أرغم الحاج نور الدين على كتابة خمس فدادين تمن سكوته على غلطة قمر! والدم اللى كان على المن....؟! فبادره الآخر... دا دم فراخ يا أهبل! ويطلع مين ابن الفرطوس اللى عمل العملة السودة دى؟! بيقولوا إنها كانت ماشيه مع شبيب أب رحومة! أيوه... أيوه... افتكرت... أنا شفتها مرة وهى بتسلم عليه وهو راجع من الجيش! يتلقى وعده... بكره الدم يبقى للركب! وليه الدم يبقى للركب... مش خليل ستر عليها خلاص؟! خليل ستر قمر وقبض التمن، لكن شبيب طعن الحاج نور الدين فى شرفه وجرح الشرف ما يتنسيش! (9) أحس فؤاد بأن الأرض تكاد تميد من تحت قدميه... سار بخطى متثاقلة يجرجر فى قدميه فارًا من طلقات الرصاص التى لا تزال تدوى فى أذنيه اتجه غرب القرية... الكلمات التى كانت تخرج من فم الرجلين تطارده وتنخر فى عظامه... دموع قمر التى جاءت يومًا تبكى له تحت شجرة السنط دون جدوى تلاحقه كالطوفان، عبثًا حاول أن يصم أذنيه وهو يتخبط ويتعثر فى الغيطان حتى وصل إلى غيط حميد، سأله حميد الذى كان يسهر على رى الغيط... إنت سايب الفرح وجاى هنا تعمل إيه يا فؤاد؟! نظر إليه فؤاد طويلًا ثم كمن ناء بحمل ثقيل انفجر قائلًا... شبيب أب رحومه برىء يا عم حميد... شبيب أب رحومة مش لازم يموت اللى لازم يموت هو ابن الفرطوس؟! ثم صعد الحاجز الزلطى واستدار يحملق فى المدى، كانت دقات الساعة تعلن الحادية عشرة... لم يعبأ بذاك الخيط الرفيع الذى أخذ يشع ويتراءى له من على بعد، ولا بهذا الصفير الذى كان يترامى إلى أذنيه ولابنداءات وتحذيرات حميد... قطر حداشر يا فؤاد... خد بالك يا فؤاد! و.... على شريط السكة الحديد تمدد.