( عرجت في طريقي إلى هذا البيت الأبيض الصغير القابع بين الأشجار ، أخذت أتحسس هذه الرسومات الطباشيرية التي رسمتها و أنا صغير ، مازالت كما هي لم تمحوها الأيام و السنين ، سمعت أصوات ضحكات براءة الطفولة التي كانت تنطلق منا فتملأ الفضاء ، تختلط بأصوات الطيور و العصافير فوق الأشجار ، داعبت أنفي رائحة أشجار الليمون و الجوافة ، حاولت التلذذ بأكثر قدر منها ، أخذت منتشيا المزيد من الأنفاس العميقة محاولا اختزانها بصدري ، وقفت للحظات أمام الباب الخشبي العتيق ، ترددت طويلا في طرق الباب ، هل هي هنا ؟ أم تراها ذهبت إلى بيت أبي في آخر القرية هناك ؟ طرقت الباب على استحياء ، جاءني صوتها الواهن تسأل ) مين ؟ ( هل أرد عليها ؟ أم أجعلها مفاجأة ؟ أقترب صوتها من وراء الباب تكرر ) مين ؟ أنا .... ( فتحت الباب ، تسللت رائحة الفرن و الخبز من داخل الدار ، و إذا بها تقف أمامي بجلبابها الأسود تناثرت عليه بعض ذرات الدقيق ، كما هي لم تتغير ، صبغ الحزن عينيها بالبياض ، مالت برأسها جانبا و كأنها تتحسس النظر بأذنيها ، لمعت أسنانها البيضاء خجلى من وراء شفتيها ، مسحت وجه كفيها و ظهريهما بجلبابها ، سألت مترددة ) محمد ؟ ( حاولت استبيان الحقيقة فمدت أصابعها تلامس وجهي ، اقتربت مني تشمني ) أنت لسه عيل زي ما أنت ؟ الحاج عبد الموجود موجود ؟ ( أخذتنا حالة من الضحك ، فتحت ذراعيها فارتميت في حضنها ) كده برضه يا محمد ؟ و لا كأن ليك أهل تسأل عنهم و تطمنهم عليك ؟ ( أخذت تبكي ، حن قلبي لبكائها فشاركتها البكاء ) هي دي برضه صلة الرحم ؟ أرجوك تسامحيني يا ( نبوية) ، الشغل واخد كل وقتي و الله ..... طب على الأقل اتصل اطمن علينا ( انتبهت لبرودة جسدي ، فأبعدتني تسأل ) إنت مبلول كده ليه ؟ أصلي ازحلقت و وقعت في الطين و أنا جاي .... ( فلتت ضحكاتها من بين الدموع ) هاهاها ، ما فيش فايدة فيك أبدا ؟ حتى و أنت كبير برضه بتزحلق ؟ طب على الأقل زمان لما كنت باشوف كنت بامسك إيدك ، فاكر يا وله لما ازحلقت و شدتني معاك وقعتني في الترعة ؟ ها ها ها ... أخبار أبويا إيه ؟ و الله مش و لا بد ، مش عارفة أقولك إيه يا محمد ؟ أديك ها تشوف بنفسك . أمال مين اللي قاعد معاه ؟ أديني هنا شوية و هنا شوية . طب ليه الشحططة دي ؟ ما أنت عارف دماغه ، مش راضي يجي يقعد معايا ، بيقول ما أخرجش من بيتي إلا ع القرافة ، ده أنا و أبو يوسف غلبنا فيه . معلش ، خليه براحته ، طب ها تيجي معايا ؟ آجي معاك فين ؟ مش الأول لما تدخل تستحمى و تغير هدومك المبلولة دي ؟ و تاكل لك لقمة ؟ تعالى ادخل ادخل .... ( أمسكت بيدها أدخلها ، سحبت يدها بسرعة ) إنت فاكرني ما باشوفش و إلا إيه ؟ تعالى ادخل يا نور عيني تعالى ، خلي بالك من الطشت لتتعتر فيه ، تعالى اقعد هنا على الكنبة ، ثواني و راجعة لك . ( تحسست طريقها إلى داخل الدار ، ما هي إلا لحظات حتى أتت ) تعالى يلا خش الحمام ، أنا ولعت لك ( الباجور ) على بستلة المية أهي ، و ( الكوز ) هتلاقيه عندك على كرسي الحمام ، و خد يا عم آدي صابونة جديدة بورقتها ، هدومك و الفوطة متعلقين على المسمار اللي ورا الباب ، و ابقى حط لي بقى المبلول ده كله في ( القروانة ) عشان أغسلهم لك ، إن شاء الله تطلع تلاقيني سخنت لك الأكل ، يلا هم . الله يبارك فيك يا نبوية ، مش عارف من غيرك كنا عملنا إيه ؟ ( انحنيت على يدها أقبلها ، سحبت يدها بسرعة ) استغفر الله العظيم ، عيب يا وله ، أزعل منك و الله ، ده أنت ابني الكبير .... ( دخلت و أغلقت الباب ، أخذني صوت ( وابور الجاز ) و رائحة رطوبة الجدران على جناحيها هناك ، وجدتني أجلس عاريا بين يدي أمي التي تجلس على كرسي الحمام الخشبي الصغير ، تصب الماء الدافئ على جسدي ، أبكي من حرقة الصابون الذي دخل عيني ) مش قايلة لك تقفل عينك يا نور عيني ؟ وريني ... ( أخذت تصب الماء على رأسي و تفرك عيني ) هيه ؟ راح ؟ أيوة خلاص ، كفاية بقى ..... ( لقتني داخل المنشفة و أخذت تجفف جسدي ) كفاية بقى .... استنى لحسن تاخد برد ، هات إيدك .... ( ألبستني جلبابي الجديد و أخذت تصفف شعري بمشطها الأبيض الصغير ) أيوة كده ، قمر اربعتاشر يا ناس ؟ الجلابية ها تاكل منك حتة ..... ( جاءني صوت نبوية تنادي ) يلا يا محمد الأكل ها يبرد .... ( خرجت فوجدتها و قد وضعت أطباق الطعام فوق الطبلية الخشبية ) تعالى دوق أكل أختك نبوية ، تلاقيك يا حبة عيني ما بتتهناش على لقمة هناك ... لأ ، مين ده ؟ و هو احنا ورانا هناك غير الأكل ؟ و هو أكل المطاعم ده برضه بتسميه أكل ؟ خد خد ، بالهنا و الشفا ... ( أخذت أتناول الطعام ) بسم الله ما شاء الله ، تعرفي إن أنتي الوحيدة اللي طبيخك زي أمي الله يرحمها ؟ الله يجبر بخاطرك ، إش جاب لجاب ؟ اسكت أما اضحكك ، مش كنا بندور لأبوك على عروسة ؟ معقولة ؟ إيوة و المصحف ، الشيخ مبروك الله يكرمه قال لنا الراجل ده ما ينفعش قعدته كده من غير ست تاخد بالها منه و تراعيه ... و هو وافق ؟ الصراحة قلنا ما نقولوش إلا لما نشوف له واحدة مناسبة الأول ، و ساعتها بقى نبقى نقول له و ناخد رأيه .... مش ها يوافق ، أنا عارف .... المهم يا سيدي قعدنا ندور لغاية لما لقيت له واحدة مية مية ... و دي مين دي إن شاء الله ؟ خالتك هانم أم البشلاوي .... هي لسه عايشة ؟ عايشة يا خويا و زي الفل ، و صحتها بمب و عال العال ، قلت أكلمها و آخد رأيها ، أهي تخدمه و تراعيه و تاخد بالها منه ... و قالت لك إيه ؟ الست يا خويا باقول لها إيه رأيك أنا جايبة لك عريس ، لقيتها رحبت بيا و طرطقت وادنها و لا بنت أربعتاشر .... طب كويس ، المهم ؟ الست باقول لها يعني إن العريس راجل كبير و نايم تعبان و عاوز يعني واحدة ست كده جنبه تخدمه بس و تسليه ، لقيتها قامت و حطت كيس العنب اللي جايباه في حجري و قالت لي : ما عندناش بنات للجواز يا أم يوسف ، و ابقي يا أختي عدي على المقلة خدي له معاك نص كيلو لب يتسلى بيه أحسن هاهاهاهاها ... ( انفجرنا في الضحك ) شوف يا أخويا الست ها ها ها .... لا مش ممكن ، هاهاها ، ما هو أنت برضه اللي غلطانة ، رايحة لواحدة بتعلب في الناشئين تحت سبعين سنة و عاوزة تضيعي الثواني اللي فاضلة ف عمرها ؟ ها ها ها ، أمال أبو يوسف فين ؟ تلاقيه قاعد ع القهوة بيشرب له حجرين معسل ، ها يروح فين يعني ؟ على رأيك ، صحيح ، ما فيش أخبار عن يوسف ؟ ( شردت المسكينة و وجدت الدموع و قد بدأت تترقرق في عينيها ، حاولت المسكينة إخفائها ، ففشلت ) الواد حسن ابن خالتك ( سنية ) لما رجع م العراق حلف لي ع المصحف إنه شافه مرة هناك بيبيع سجاير في الشارع ، كان ساعتها راكب الأتوبيس ، و قعد ينادي له م الشباك ، بس ما ردش عليه ، و لما نزل في أول محطة و رجع نفس المكان عشان يقابله لقاه فص ملح و داب ... لا حول و لا قوة إلا بالله ، الواد ده طالع براوي كده لمين ؟ ( ضحكت المسكينة رغم ألمها و بادرتني ) هيه ، ها يكون طالع لمين يعني ؟هم مش بيقولوا في المثل : الواد لخاله ؟ ( أحسست بطعنة في صدري ) كده برضه يا نبوية ؟ الله يسامحك .... ( حاولت التخفيف من حدة ردها فبادرتني ) أنا باضحك معاك يا وله ، أهو أنت أهو على الأقل جاي تسأل علينا ، الرك بقى على اللي خد في وشه و راح ما جاش ، كل كل .... الحمد لله شبعت ... ( وقفت متأهبا للذهاب ) استنى لما أعمل لك الشاي ... لأ معلش ، ها اشربه هناك ، إيه ؟ مش ها تيجي معايا و إلا إيه ؟ لأ روح أنت و أنا ها احصلك ، عشان بس أغسل الهدوم المبلولة دي بدل ما تعفن . طيب سلام عليكم . و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ، ( خرجت راحلا في اتجاه بيت أبي ، بينما جاءني صوتها يحذرني ) خلي بالك بقى و أنت ماشي لتزحلق و تقع تاني ......... ( يتبع )