سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالتزامن مع إجازة البنوك وبداية موسم الحج    مصرع أكثر من 29 شخصا وفقد 60 آخرين في فيضانات البرازيل (فيديو)    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    الخضري: البنك الأهلي لم يتعرض للظلم أمام الزمالك.. وإمام عاشور صنع الفارق مع الأهلي    جمال علام: "مفيش أي مشاكل بين حسام حسن وأي لاعب في المنتخب"    "منافسات أوروبية ودوري مصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    كاتبة: تعامل المصريين مع الوباء خالف الواقع.. ورواية "أولاد الناس" تنبأت به    اليونسكو تمنح الصحفيين الفلسطينيين في غزة جائزة حرية الصحافة لعام 2024    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    هل يجوز الظهور بدون حجاب أمام زوج الأخت كونه من المحارم؟    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    أيمن سلامة ل«الشاهد»: القصف في يونيو 1967 دمر واجهات المستشفى القبطي    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    مصطفى شوبير يتلقى عرضًا مغريًا من الدوري السعودي.. محمد عبدالمنصف يكشف التفاصيل    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    محمد هاني الناظر: «شُفت أبويا في المنام وقال لي أنا في مكان كويس»    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    ملف رياضة مصراوي.. هدف زيزو.. هزيمة الأهلي.. ومقاضاة مرتضى منصور    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    أول ظهور ل مصطفى شعبان بعد أنباء زواجه من هدى الناظر    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    الغانم : البيان المصري الكويتي المشترك وضع أسسا للتعاون المستقبلي بين البلدين    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    خالد منتصر منتقدًا حسام موافي بسبب مشهد تقبيل الأيادي: الوسط الطبي في حالة صدمة    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«فى منفى العرابيين» د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 21 - 12 - 2013

وليام جريجورى وزوجته.. وتقاطع الثورتين العرابية والأيرلندية
كتب ويليام جريجورى عن الثورة العرابية فى الصحافة الإنجليزية بصورة تستلهم ميراثها لصالح الثورة الأيرلندية
فى مصر تعرفت زوجة جريجورى إلى بلنت الذى قدمها لبيت عرابى وما يدور فيه من جدل وطنى ألهب مشاعرها أملاً فى تحرر أيرلندا
أصدرت كتيبًا صغيرًا بعنوان «عرابى وأهل بيته» دافعت فيه بقوة عن زعيم الثورة المصرية وصبوات الشعب فى التحرر من نير حكم الخديو التركى
على كثرة ما قرأت عن الثورة العرابية، فإننى لم أجد فى كتب مؤرخيها شيئا ذا بال عن التفاعل العميق والمهم بينها وبين الثورة الأيرلندية التى دارت بعض وقائعها فى الفترة نفسها، واستلهمت أيرلندا فيها روح التمرد العرابية، وأشواق الاستقلال التى رعتها. صحيح أن البحث فى ما جرى على الجانب الآخر فى بريطانيا يقودنا إلى هذا التفاعل، ويتطلب منا الوعى ببعض فصوله، لأنه لعب دورا فى حماية العرابيين من عصف الخديو بعد هزيمتهم، وحتى من أى محاكمات عسكرية قد تكون قد خطرت على بال ولسلى بعد انتصاره فى التل الكبير، كما نعرف من بعض ما كتب عنه.
لكنَّ جُل مؤرخى الثورة العرابية لم يلتفتوا إلى أهمية دور الثورة الأيرلندية فى المشهد. ولم أقرأ أى كتاب يكشف فصول هذا التفاعل، ويوجهنا إلى بعض وثائقه، أو يكشف لنا عمن لعبوا أدوارا مختلفة فيه. اللهم إلا حدوس الروائى الكبير بهاء طاهر فى روايته الجميلة «واحة الغروب» التى تكشف عن شىء من وعى أيرلندا بالثورة العرابية، وتشير شخصيتها الأيرلندية إلى أن أباها كان يعلق صورة عرابى فى بيته. وحدوس الفنان كثيرا ما تكون أصدق من أبحاث المؤرخين، كما نعرف من المقارنة بين ما كتبه بلوتارخ عن كليوباترا مثلا، وما كتبه شكسبير عنها فى مسرحيته الجميلة «أنطونى وكليوباترا» رغم اعتماده على بلورتارخ فى مادته.
حيث جاءت حدوس الأديب أكثر إنصافا لها من تحيزات المؤرخ. ورغم معرفتى بالكثير من فصول الثورة الأيرلندية، وقراءتى فى زمن مبكر لإحدى روايات هذه الثورة وهى «كفاح الأحرار» لأوفلارتى، ومعرفتى بتاريخ المسرح الأيرلندى، وكيف لعب أدوارا متعددة فى إشعال جذوة الروح الوطنية فيها، وكيف كانت المظاهرات تخرج من مسرحيات سينج وأوكيزى، وقد أثار العرض حماس الجمهور. لكننى لم أعرف أن أحد أبرز اللاعبين الأساسيين فى حركة هذا المسرح الوطنى الثورى، وأحد مؤسسى أبرز مسرح أيرلندى حتى اليوم وهو مسرح «أبى» فى دبلن والذى يعد بمنزلة المسرح القومى الأيرلندى، ألا وهى الليدى جريجورى، قد تعلمت دروس الثورة الأولى فى بيت أحمد عرابى. وحتى نتعرف على كيف رمت المقادير بتلك الشابة الأيرلندية فى بيت عرابى، وقد تفتح وعيها الثورى على يديه، فعادت إلى بلدها لتلعب دورا مهما فى ثورته وفى السعى الوطنى لتحقيق استقلاله، علينا أن نواصل ما بدأناه فى الأسبوع الماضى من حديث عن ويلفريد سكاون بلنت. فقد تركنا بلنت فى الأسبوع الماضى وهو يراقب ما يدور فى الساحة السياسية فى لندن، وهو يتنقل بين بريطانيا ومصر، وينوب عن عرابى فى التنبيه إلى تناقضات سياسات جلادستون إزاء القضية المصرية. ويذكره بمعارضته الواسعة لوحشية الأتراك فى بلغاريا إبان سنواته فى المعارضة. وإلى وقوعه فى أنشوطة سياسات أعدائه من غلاة المحافظين أمثال سالزبرى ودزرائيلى. ويذكره فى مقالاته التى كان ينشرها فى صحيفة «التايمز» بخطبه القديمة ضد نزعات المحافظين العدوانية. فهو الذى اعترض عام 1879 حينما كان فى المعارضة على تحويل حكومة دزرائيلى المراقبة المالية إلى مراقبة سياسية فى مصر، كما يقول لنا كرومر فى كتابه: «ما المراقبة السياسية؟ إنى واثق أنها لم تكن سياسية قبل 1879، بدليل أن الحكومة البريطانية لم يكن لها علاقة بها. وإذا كان الواقع أن مصر هى التى اختارت إنشاء المراقبة الأجنبية بمحض رغبتها، مما عاد على الشعب المصرى بفوائد جليلة. وأن هذا النظام لم يكن يستتبع أى تدخل أجنبى، لأن مصر كانت تملك حق عزل المراقبين. فإنكم باستلابكم هذا الحق من مصر فى سنة 1879 قد أتيتم بالتدخل الأجنبى إلى صميم البلاد، وأنشأتموها مراقبة سياسية بكل ما يحمل هذا التعبير من معنى».
كما ذكره بدفاعه المجيد عن الأفغان فى خطبه العصماء بمجلس العموم: حيث قال فى إحداها «إن المساواة فى الحقوق بين شعوب العالم كبيرها وصغيرها أمر يقتضيه الواجب الأخلاقى، وتتمسك به كل تقاليد الشرف. ولنذكر جميعا أن قدسية الحياة الإنسانية ذاتها، فى أكواخ القرى الأفغانية المنتشرة وسط الجبال المثلوجة القحلاء فى زمهرير هذا الشتاء، إنما هى من الحرية والقدسية فى نظر الإله الرحيم بالقدر الذى يساويها بحياتنا نحن البريطانيين فى قرى جزيرتنا المتحضرة». هل يستمع لهذا الكلام ساسة أمريكا المتحضرة اليوم؟ أم أنهم يتغاضون عنه كما تغاضى عنه جلادستون نفسه بالنسبة إلى مصر؟ ناهيك بأفغانستان!/
وقد نجح بلنت بالإضافة إلى إثارة الرأى العام ضد من يدعون لغزو مصر، وضد سياسات جلادستون إزاءها، إلى حشد دعم كبير ضد هذا كله فى مجلس العموم البريطانى. فكانت هناك معارضة إنجليزية قوية للتدخل العسكرى فى الصحافة البريطانية ومجلس العموم منذ تجمعت سفن الأسطول البريطانى فى بوغاز الإسكندرية. حيث قدمت عدة استجوابات فيه بشأن ما جرى. وما إن أخذت البوارج الإنجليزية فى الإسكندرية توجه إنذاراتها لمصر بغية ضربها، وتتعلل بمسألة تجديد الطوابى ذريعة لهذا الضرب، حتى قدم مايكل ريتشاردز عضو مجلس العموم استجوابا يقول فيه إن ما يدور يشبه أن «أرى رجلا يحوّم حول دارى وعلامات العدوان بادية على وجهه، وحينما أعمد إلى إغلاق نوافذى وأبوابى، يثور غضبا ويزعم أننى أهينه وأهدده».
وكان على رأس من كسبهم بلنت إلى جانبه وإلى جانب القضية المصرية والثورة العرابية من أعضاء البرلمان اللورد راندولف تشرشل، والد ونستون تشرسل رئيس وزراء بريطانيا الشهير إبان الحرب العالمية الثانية. الذى عارض الاحتلال، ثم قدم أكثر من استجواب ضد جلادستون حول الموضوع، وكان آخرها استجواب بشأن سلامة عرابى بعد الاحتلال. وكذلك عضو البرلمان السير ويلفريد ويلسون الذى قدم استجوابا لوزير الخارجية بشأن ما تداولته الصحف من تعذيب عرابى وصحبه بعد القبض عليهم، خصوصا بعدما تناقلت الأخبار أن محمود فهمى قد أصيب من جراء التعذيب، مما أدى إلى إرسال مندوب عن الحكومة البريطانية لزيارتهم فى محبسهم، وكتابة تقرير لمجلس العموم عن حالتهم. فى هذا المناخ المنقسم على نفسه، ووسط معارضة قوية لضرب مصر داخل بريطانيا ومجلس عمومها ذاته، دارت الحرب ضد العرابيين. وهى حرب يقال إن جلادستون أدارها عن بُعد، وترك أمرها لأعوانه، خصوصا لورد جرانفيل وزير خارجيته. لانشغاله بمسائل أخرى وقتها مثل الثورة الأيرلندية بقيادة بارتل ضد الإنجليز.
وها هو بعد ضرب الإسكندرية يخطب بمجلس العموم البريطانى، فى 22 يوليو 1882، مبررا ومستدركا ما قاله بنفسه فى ماضيه «لقد مرت فى تاريخ مصر الحالى فترات ساد فيها الاعتقاد، حتى فى بريطانيا، بأن الحزب العسكرى فى مصر هو الحزب الذى يمثل الشعب، وأنه يناضل فى سبيل حريتها. ولكن هذه العقيدة يعوزها الدليل الذى يؤيدها بعد كل ما جرى. لأن استعمال القوة العسكرية وإنشاء نظام حكم فى ظل تلك القوة يتعارضان مع وجود الحرية ونموها. إن حكم كرومويل كان عظيما، ولكنه لم يصنع لحرية بريطانيا شيئا. وحكم نابليون كان رائعا، ولكنه قام على سلطة عسكرية، ولم يفد حرية فرنسا أى فائدة». ها هو يقارن عرابى بكرومويل ونابليون، ولكنه يغض الطرف عن مهاجمة حكومته لمشروعه فى الاستقلال الوطنى، ألا تذكرنا تلك المعايير المزدوجة بموقف أمريكا اليوم من الثورة المصرية؟ بل إن كرومر نفسه يلوم جلادستون على احتلاله لمصر، ويعتبر أنه لو أيد الحركة الوطنية فيها، واعترف بالنهضة الشاملة التى كانت تتخلق بها، وساعد الحزب الوطنى على تحقيق أمانيه «لو فعل جلادستون هذا لظفرت بريطانيا بشكر المصريين، لما وقع الاحتلال أبدا».
وحتى ندرك كيف انتهى الأمر بعرابى وصحبه إلى سرنديب (سيريلانكا) علينا أن نتعرف على رجل آخر إلى جانب بلنت، دفعته المقادير فى طريق عرابى، وأوقعت زوجته الشابة فى أثناء زيارتها لمصر والتى كانت تصغر زوجها بخمس وثلاثين سنة فى غرام بلنت، وفى أسر دفء بيت عرابى وكرمه. فلم يكن مصير عرابى وثورته معا فى يد بلاده، أو حتى فى يد حاكم تلك البلاد وقتها: الخديو توفيق، ولكنه تقرر من خلال التوتر والصراع بين رؤيتين غربيتين متناقضتين فى أواخر العصر الفيكتورى. وهو صراع لعب دورا مهما فى تغيير الصورة، ودفع الذين يفكرون فى احتلال مصر إلى التريث عند كل خطوة، وحساب ردود الفعل الداخلية والخارجية عليها. كانت هناك رؤية استعمارية خالصة تعود إلى أيام دزرائيلى وشرائه بالبخس حصة مصر فى أسهم القناة، وتسعى إلى الاستيلاء على مصر لموقعها الاستراتيجى وأهميتها لتأمين خطوط إمدادات الإمبراطورية ونزح ثرواتها، ضد رؤية جسّدها بلنت وأضرابه من مثقفى العصر، تمثلها نزعة العصر الفيكتورى الأخلاقية والمتجذرة فى ميراث المثالية والرومانسية العقلية الإنجليزية، ترى أن تاريخ مصر الحضارى، ودين البشرية له، يستلزم دعم وسعى شعبها للاستقلال والتحرر. وهو الأمر الذى برز من جديد بعد ثورة 25 يناير المجيدة، حيث كتب بعض أبرز مفكرى أوروبا المعاصرة مثل سلافو جيجيك من سلوفينيا، وبيرى أندرسن من بريطانيا، وآلان باديو من فرنسا، وأنطونيو نيجرى من إيطاليا وحتى ناعوم تشومسكى من أمريكا، يؤكدون جميعا دور مصر الحضارى، وأهمية ما قامت به ثورتها فى الكشف عما يعترى العالم المعاصر من خلل بنيوى، تقوم فيها أمريكا المعاصرة بنفس الدور الكريه الذى سبق أن قامت به بريطانيا بنزعتها الاستعمارية فى إجهاض الثورة العرابية، ولكنها تستخدم استراتيجيات صهيوأمريكية جديدة تستخدم فيها الإسلامجية.
فقد كان هناك إلى جانب بلنت الذى يعرفه الجميع، أعضاء بارزون فى معسكر الخير المحب لمصر من أبرزهم السير ويليام جريجورى (1817 – 92) وهو أحد أعضاء الأرستقراطية الأنجلو أيرلندية، وحفيد أحد ملاك شركة الهند الشرقية الشهيرة. وقد جاب أوروبا كما هو الحال مع نظرائه من أثرياء القرن التاسع عشر، وزار مصر عدة مرات وعاش بها بين عامى 1855-1856، وكتب عن رحلاته بها كتابا من جزأين بعنوان «مصر» نشر عام 1859، كما زار تونس وفلسطين، ولكنه كان مغرما بمصر بشكل خاص، وكان من الذين يدعون إلى معاداة تركيا، ودعم انفصال الجزر الأيونية وكريت عنها وضمها إلى اليونان. كما كان من المولعين بالفن وقد جمع عددا من اللوحات المهمة، بما فيها لوحات للرسام الشهير دييجو فلاسكويز تبرع بها للمتحف الوطنى البريطانى الذى كان لسنوات طويلة من أعضاء مجلس إدارته. وكان ويليام جريجورى فى الفترة الممتدة من 1842-1871 عضوا فى مجلس العموم الإنجليزى عن مدينة دبلن ومقاطعة دلاوى لعدة دورات، وكانت له مجموعة من الأصدقاء ذوى النفوذ السياسى الواسع فى البرلمان مثل روبرت بيل واللورد لنكولن. وفى عام 1871 عين حاكما عاما على سيلان، واستمر فى هذه الوظيفة حتى تقاعد عام 1877، وعاد إلى أيرلندا.
لكنه عاد إلى مصر عدة مرات بين عامى 1881 و1882 وكتب عن الثورة العرابية بها فى الصحافة الإنجليزية بصورة تستلهم ميراثها لصالح الثورة الأيرلندية. وفى عودته الجديدة إلى مصر صاحبته زوجته الشابة إيزابيلا أوجستا Isabella Augusta Lady Gregory المعروفة باسم الليدى جريجورى (1852-1932) التى كانت فى الثامنة والعشرين من عمرها، والتى تنحدر هى الأخرى من أصول أرستقراطية أيرلندية. وفى مصر تعرفا على بلنت، الذى قدمهما إلى بيت عرابى، وإلى ما يدور فيه من جدل وطنى ألهب مشاعر الليدى جريجورى الوطنية فى آمال أيرلندا فى التحرر. وفى بيت عرابى توطدت صداقتها بزوجته، واهتمت بمعرفة تفاصيل القضية المصرية وصبوات ثوارها. كما ألهب ويلفريد بلنت أيضا والذى كان أقرب إليها عمرا، وكان معروفا عنه ولعه بالنساء وشغفه باقتناء العشيقات، بعدما انشغلت عنه ليدى آن زوجته باقتناء الخيول العربية، مشاعرها الأخرى فوقعت فى غرامه، وكتبت عن تجربتها معه ديوانا شعريا كاملا بعنوان «سوناتات امرأة Woman's Sonnets» أى ترنيماتها الغرامية.
لكن المهم هنا أن غرامها بالقضية المصرية لم يقل عن ولعها ببلنت. لذلك كان أول عمل مطبوع لها، وقبل نشر ديوانها الأول «سوناتات امرأة» هو كتيب صغير بعنوان «عرابى وأهل بيته Arabi and His Household» ظهر عام 1882 على شكل ثلاث مقالات فى صحيفة «التايمز» اللندنية، دافعت فيه بقوة عن عرابى، وعن صبوات المصريين فى التحرر من نير حكم الخديو والأتراك، وشنت فيه حملة شعواء على تخلف الأتراك وتحضر المصريين، ورغبتهم فى التخلص من الحكم التركى خاصة، ومن نفوذ الأجانب فى بلادهم عامة. وقد أشعلت الثورة العرابية لديها نيران التمرد على الإنجليز وموقفهم من بلدها، أيرلندا، فنشرت فى العام التالى كتيبا آخر بعنوان «حج مكذوب، أو الخراب المحلى A Phantom's Pilgrimage, or Home Ruin» عارضت فيه مشروع جلادستون فى إصدار قانون الحكم المحلى Home Rule لأيرلندا، ودعته فيه بالخراب المحلى وليس الحكم المحلى. وواصلت الليدى جريجورى حماسها للقضيتين: المصرية والأيرلندية. فقد لعبت فى بلدها، أيرلندا، دورا مهما فى إيقاظ المشاعر الوطنية وفى تأسيس «مسرح آبى Abbey Theatre» الشهير فى دبلن، مع شاعر أيرلندا الأكبر وقتها، ويليام بتلر ييتس (1865-1939)، والذى كان يصغرها بثلاثة عشر عاما، وأسهمت فى إرهاف حسه القومى، فكتب بعض أبرز القصائد التى شاركت فى بلورة الروح الوطنية الأيرلندية وفى صياغة رؤى ثورتها، وهو أول أيرلندى يحصل على جائزة نوبل للآداب.
هكذا كانت الصورة على الجانب الآخر، وهكذا تقاطعت المصائر، وأثرت على ما جرى فى الأسابيع القاسية العشرة التى انتهت بمحاكمة العرابيين ونفيهم. وحينما بدأ العمل فى الإعداد لتلك المحاكمات كان المعارضون للاحتلال البريطانى فى إنجلترا نفسها يراقبون كل خطوة ويمحصونها بطريقة أشد فعالية من تلك التى كانت تتناولها بها الدوائر المصرية ذاتها، والتى اتسم أداؤها بالكثير من التخبط. فقد كان للثورة ولسحر مصر وطموحها الوطنى دور فى استقطاب عناصر مهمة فى القوة الناعمة البريطانية نفسها لتقف مع عرابى والثوار، بعدما ارتكبته القوى العسكرية الخشنة فى حقهم وفى حق مصر من ويلات. وقد تجلى دور تلك القوة الناعمة أكثر ما تجلى فى الأسابيع العشرة التى أعقبت الاحتلال، والتى حالت دون عصف الخديو الخائن بالثوار وإعدامهم فى مجزرة يدعم بها حكمه. فقد توالى النقد فى الصحف البريطانية، وفى مجلس العموم البريطانى معا لاحتلال بريطانيا لمصر، ونكثها بعهودها أمام بقية القوى الأوروبية وعدم احترامها لتوقيعها على «ميثاق النزاهة» وافتقارها إلى الذرائع الأخلاقية أو المقنعة التى تبرر عدوانها. لذلك تحولت مسألة محاكمة أحمد عرابى وصحبه إلى موضوع مهم فى الصحافة البريطانية، ربما أكثر أهمية مما كان فى الصحافة المصرية التى سيطر عليها الصوت الواحد، صوت الخونة وأذناب القصر. خصوصا أن ويلفريد بلنت دعا الإنجليز الذين يشعرون بالغضب لعدوان أسطولهم على بلد ينشد التحرر والاستقلال عن النفوذ التركى البغيض، للاكتتاب من أجل جمع المال لضمان محاكمة عادلة له، وتوفير دفاع قوى عنه. وقد تسارع كثيرون من الإنجليز الأقحاح للتبرع لهذا الصندوق، وكان بين المكتتبين فيه، كما تكشف لنا الوثائق الآن، أكثر من عشرة أعضاء من البرلمان، وخمسة من كبار ملاك الأراضى، وكان لهم دور مهم فى توجيه السياسية البريطانية وقتها، وعشرات من الأيرلنديين، وعشرات أخرى من المواطنين البريطانيين العاديين. حتى جمعوا أكثر من خمسمئة جنيه إسترلينى وقتها، وهو مبلغ كبير بمقاييس تلك الأيام، يعادل بالأرقام الحالية أكثر من خمسة ملايين جنيه إسترلينى اليوم. ومن الأمور المثيرة للاهتمام أن من يقرأ هذه القائمة اليوم يلاحظ أنها شملت كل شرائح المجتمع، ففيها من تبرع بمئة جنيه، ومن تبرع بجنيه واحد أو ثلاثة أو خمسة جنيهات. خصوصا أن بها عددا لا بأس به من الأسماء الثقافية والسياسية المرموقة.
واختار بلنت محاميين إنجليزيين شهيرين للدفاع عن عرابى هما برودلى Broadley ونابيه Napier، وقد كتب برودلى فى ما بعد كتابا عن الموضوع «كيف دافعنا عن عرابى وصحبه»، يعد أحمد عرابى نفسه فى «كشف الستار» أقرب الكتب لمعرفة حقائق النهضة القومية المصرية. وأخذ المحاميان يعدان لقضية يمكن أن تكون بحق محاكمة القرن، خصوصا أن عرابى وصحبه طالبوا بشهادة أكثر من 400 شاهد، بينما طالب الادعاء بشهادة 12 شاهدا. لكن دهاء الساسة الإنجليز سعى إلى التملص من تلك المحاكمة بكل الطرق، وتحولت محاكمة القرن، كما يتجدد الأمر الآن على الساحة من جديد، إلى واحدة من مهازل التاريخ التى دائما ما تتم على حساب الثوار الحقيقيين، وعلى حساب مصر معهم. وهذا ما سنتعرف على فصوله فى الأسبوع القادم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.