المناضل السياسى المصرى بدأ حياته المدونة بالدفاع عن الفلاحين ضد الإقطاع.. وعن الحفاة ضد النخبة. الفلاح علّم ولاده ما شاء الله فى التعليم المجانى، وذهبوا إلى الجامعة، وكما فعل ملايين غيرهم بقوا فى نفس المدينة واتوظفوا. وكان لازم المناضل السياسى يتطور هو كمان. إزاى اتطور؟ بعد ما كان بيستهزأ فى أفلامه ومسرحياته من الموظف، بوصفه برجوازية صغيرة، ويطلعه دايما فى صورة الندل، المفرط فى الأرض، الوضع تغير. ما المناضل السياسى نفسه تماهى مع جمهوره. وبقى هو نفسه موظف. شغال فى صحيفة قومية، صحافة وظيفية، أو ماسك له سبوبة فى وزارة الثقافة هنا ولا هنا، أو شغال فى حزب رئيسه ماتغيرش من عشرمية سنة.. موظف برضه يعنى. صورة للدولة التى كانوا يسبونها ليل نهار. هو كمان نقل على القاهرة ورستق نفسه وقعد. شايل معاه حتة كبيرة من القرية. مش بيهمه تخطيطات الشوارع مثلا. إيه الرفاهية والفذلكة دى؟! ما عادى، الناس تعدى الشارع والعربيات تقف تستناها. كلنا إخوات ولازم ناخد بالنا من بعض. وعمره ما فهم إيه أهمية «الرصيف» فى المدينة. إيه الرفاهية والفذلكة دى؟! ما احنا فى البلد زى الفل وعمره ما كان حدانا لا رصيف ولا دياولو. وبعدين سيبى الناس تسترزق. عمل لك إيه البقال يعنى لما فرش بضاعته على الرصيف وخدله مترين زيادة؟ خدهم من لحمك الحى؟! إيه ده؟! طبعًا ما هو فى البلد حداهم الناس ماشية فى وسط الشارع، ومافيش عربيات أطفال محتاجة رصيف يكون متجهز إنها تمشى عليه علشان نتشجع ونخرج العيال. حتى الزبالة مش فاهم إيه أهمية جمع القمامة. ما نرميها على أول الشارع عند رصيف المترو. تكبر فى أول الشارع إحنا مالنا. خلى الناس اللى فى أول الشارع يتصرفوا. البلد اللى ماحدش يعرفك فيها، ارمى الزبالة فيها، عادى. هم دول نفسهم اللى بقوا رؤساء تحرير صحف، ورؤساء أحزاب، ونشطين سياسيين. هم هم. عينهم مش شايفه الخراب اللى فى البلد، من شوارعها لرصايفها لطريقة ممارسة السياسة فيها، ليه، لأنها ماشية حسب عقليتهم هم، فى الحقيقة هم اللى عملوا كده فى البلد، فى القاهرة زى ما فى بغداد زى ما فى دمشق زى ما فى بيروت، وغيرها من الحواضر العربية اللى انهارت وبقت ريف بأسفلت، وسياسييها بقوا بيديروها بعقلية فلاح لبس بدلة وبقى موظف. واللى شايفينا بعينينا من خراب محسوس فى الشوارع، موجود، هو نفسه، فى السياسة. لكننا فى الشوارع عارفين السبب وفى السياسة تايه عننا. السبب هو العقلية «البيروقراطية» التى تحكم مجالنا السياسى، عقلية الموظف المنبثق عن الفلاح. وهى عقلية حقبتها التاريخية فى السلطة انتهت منذ نحو 2000 سنة، وقيمها صارت محدودة القيمة. علت بعدها القيم «التجارية» ثم القيم «الصناعية» ثم القيم «الرأسمالية»، التى تثمن الابتكار والقدرة على خلق الفرص وتوسيع المشاركة والترحيب بالمبادرات. وليس قيم اللوائح والالتزام بالتعليمات والخوف من المغامرة، قيم «الموظفين». ذكرت كل ما سبق لكى أقول إنه ليس صدفة أن نخبة السياسيين التى تحكمنا اختارت أن يكون «إنجازها» الأهم هو مكافأة الموظفين، مكافأة شريحة من أقل شرائح البلد إنتاجا، مكافأة أنفسهم فى الحقيقة (الفلاحين الذين صاروا موظفين). هذا هو التطور الطبيعى للنخبة السياسية الراضية بموقعها على «يسار» العالم الناجح، والدول المتقدمة. النخبة التى لدينا نخبة موظفين سياسيين. والنشطاء الذين لدينا نشطاء «أبناء موظفين» شربوا من جيل الآباء. لا يغرنك كلامهم عن التغيير والمستقبل، فليست قيم التغيير موجودة فى دائرة القيم التى يحملونها. كلامهم عن التغيير مجرد تعبير عن كره المراهق للسلطة. إنما القيم التى يحملونها فيها «الثوابت الأخلاقية السياسية»، والخطوط الحمراء السياسية، والكلام الفخم، والشعارات. صورة أخرى من لوائح الموظفين، لا تعطى مجالا للابتكار. فيها التحديد. ثم تفصيل التحديد لكى لا يزوغ منهم زائغ، ثم شروحات للتفاصيل، حتى لا يكون لأحد حجة. قيم لا تنتج إلا نشطاء يشبهون أبناء التعليم المصرى. المتفوق منهم لا يصلح إلا للفوز فى مباريات أوائل الطلبة، حيث الإجابات محفوظة ومعادة. والفاشل منهم لا يصلح إلا للقيام بدور المتحرش.. أو طبعا طبعا الالتحاق بوظيفة فى الحكومة.