عندما اندلعت الثورة التحق بها كل من تمنى يومًا أن يحيا وينشئ أطفاله فى ظروف أفضل، من الطبقتين الوسطى والفقراء. عيش، حرية، عدالة اجتماعية، هذا فقط ما يرضيهم. جاءت الثورة بطموح هؤلاء، يجاورهم طموح الطامعين فى السلطة. لم تكن الثورة مطروحة حقيقة من جانب القوى المتصارعة، بل الانقلاب على مبارك والاستيلاء على كل ما تحكم به يوما. سقط مبارك وبدأ الصراع، وليس النضال لتحقيق أهداف الثورة. صراع فرقاء متفاوتى القوة، منهم الأزلام المستعدة للدوران فى فلك أى أحد، ومنهم القوى السافرة، وهناك الخفية. وبما أن الصراع قد اتخذ ظاهريا شكل الثورة، فلم يتحقق شىء، إلا التقلب على المقاعد. استقر الفصيل الأكثر تنظيما، محتلا عرش مبارك (أو هكذا تصور)، وبدت ملامح استبدادهم، فخرج الناس مرة أخرى. فى يناير خرجوا سخطا على اللا مبالاة والبلادة التى كان يُنظر بها إلى حالهم ومستقبلهم، وقرروا معاقبة مبارك ونظامه! فى يونيو خرجوا لمعاقبة كل من تلاعب بهم منذ يناير! لقد صدق الناس يومًا الحالة الثورية التى ادعاها القادمون الجدد، وانساقوا وراء خيارات الرموز السياسية. وجاءت الخيبة مدوية، توارت النخبة لبعض الوقت، ثم عادوا بنفس البجاحة، ما بين معتذر، ومجادل، ومنظر، عادوا ليفاجؤوا بأن الناس قد حسموا الأمر، وقرروا عدم تكرار الخطأ وإضاعة الوقت وراء نخب وجبهات، وأسقط الناس السلطة الجديدة. إذا كانت هناك خدعة أو تحركات خفافيشية من قبل ثورة الشعب فى يناير وبعدها، فتلك هى تحركات الإخوان للاستيلاء على السلطة، واستغلال كل التيارات، وتسخير أطماعها لمصالحهم. لكن مهما قيل عن ثورة يونيو، فهى ليست إلا خروج أبناء الطبقىة الوسطى والطبقات الفقيرة، بأعداد تفوق أى خروج لهم من قبل، خرجوهم لشىء واحد، رفض الإخوان وأى صورة للاستبداد أو الاستخفاف بهم وبحقوقهم. ما قدمته ثورة يناير للشعب، هو هذا الوعى، والقدرة على المقارنة بين القول والفعل، مثلت أحداث الثلاث السنوات الأخيرة، حملة توعية سياسية غير مسبوقة، جعلت الناس تتحرك بعد أشهر ولا تنتظر عقودا حتى تغضب وتثور وتسقط الاستبداد (كما تصور الإخوان). لقد بعُدَت النخبة السياسية عن الشارع منذ يناير، ولم تستغل فرصة الحراك الثورى لتلتحم بالناس. وانفصلت تماما عن الجماهير بعد يونيو. وتجلى التباين بين الشعب ونخبته، تعايشت نخبتنا مع خديعة الإخوان واستغفالهم لهم، لكن الشعب لم يقبل أن يُتلاعب به، جاءت استجابة الناس سريعة وغير مسبوقة لدعوات التمرد والخروج. فى انتخابات «الشعب» و«الشورى» و«الرئاسة» الماضية، صوّت الناس لمعاقبة نظام مبارك وكل من ينتمى له من قريب أو بعيد، وفى 30 يونيو عاقبوا مرسى وتنظيمه كله. لم ير الناس فى الجيش إلا وسيلة للاستقرار وحفظ الأمن، وليس سلطات تشريع وتنفيذ. لكن المعضلة اليوم هى عدم قدرة تياراتنا السياسية على تقديم جديد، ولا يتقن الفشلة إلا مهاجمة الجيش، معتقدين أنه المنافس الباقى أمامهم! لم يخض سياسيونا أى حروب، لكن لا يزالون يتحدثون عن الثورة.. ويسقط يسقط حكم العسكر؟! يغيب عن هؤلاء أن أيًّا ممن يهاجمون الإخوان ويقفون بقوة ضد عودتهم للحياة السياسية، يقوم بذلك لحساب الجيش، ولكن لإدراكهم أن استبداد الإخوان يتفوق على استبداد كل من تولى حكم مصر فى العقود الستة الماضية، ولا يتمنى الجميع إلا إيجاد بديل حقيقى. اليوم تواجه جماهير يناير ويونيو أزمة كبرى، تتمثل فى عدم وجود هذا البديل! أسقطوا مبارك والإخوان، رغبة فى الخبز والحرية والعدالة الديمقراطية، مدركين أن الجيش ليس هو الحل. ولا يمنع تياراتنا وأحزابنا السياسية من اقتناص الفرصة وملء الفراغ بعمل سياسى جماهيرى ينتشر فى ربوع مصر، ويلتحم مع الناس، لا يمنعهم إلا الغباء والفشل وغياب الرؤية والبرنامج. ويستمرون فى عبثهم الممتد منذ يناير ليعكس أشكال بلا مضمون. الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلد، هى إصلاح حال تنظيماتنا والانطلاق للعمل الحقيقى مع الناس، الحل ليس فى محاربة عودة نظام/ أو عدم إقصاء نظام، الحل ليس فى المزايدة بشعارات ثورية ومظاهرات.. لو كنتم جادين فعلا فى محاربة الاستبداد (نظام مبارك والإخوان) وترفضون حكما عسكريا، لكنتم اليوم وسط الناس فى الأحياء والقرى والعشوائيات، وليس عالفيسبوك وتويتر تستعرضون ثوريتكم بمهاجمة كل من يدين مراهقتكم. استمر حكم مبارك عقودا بسبب تواطئكم، وجاء الإخوان بسبب غبائكم وأطماعكم، ولا نزال لا نرى منكم إلا شعارات واتهامات ومزايدات. لكن اعلموا أنه إذا جاء الجيش للسلطة فسيكون ذلك بفضلكم. إذا صوت الناس يومًا لعسكرى فى السلطة، فسيكون ذلك لأنكم لم تقدموا له بديل حقيقى، وإن لم يروا إلا مرشحيكم على نفس الحالة.. فتوقعوا مقاطعة واسعة لأى انتخابات قادمة. إنه التصويت العقابى للجماهير التى سئمتكم.