لا شهرة للكتب المتخصصة فى مجال الموسيقى فى مصر، لا أعرف هل السبب قلة الإنتاج فى هذا المجال، أم أن هناك كثيرا منها لكنها ليست مكتوبة بطريقة مبسطة يمكن أن تصل إلى كل قارئ، وهذا ما يجعل رواجها قليلا. لكن حقيقة الإصدارات التى تخص هذا المجال -حسبما أرى فى دور النشر والمكتبات- قليلة للغاية، ولا أعرف دارا متخصصة فى نشر هذا النوع من الكتب والمؤلفات الفنية مثلا، أو حتى تقدم منها القليل وسط أطنان كتب السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيره؟! خلال الفترة الأخيرة أتيح لى قراءة كتاب «تراث الغناء العربى» لكمال النجمى، وهو مؤلف حول الموسيقى من أيام الموصلى وزرياب وحتى أم كلثوم وعبد الوهاب. يبدأ الكتاب المهم لصاحبه الذى رأس تحرير مجلة «الكواكب» من قبل، من عند المناظرات الموسيقية الغنائية بين الشاعر والأديب أبى إسحاق الموصلى، أحد أهم من رسخ قواعد التلحين والغناء العربى وصديقه إبراهيم المهدى أخى الخليفة هارون الرشيد، وذلك حول الغناء والضرب بالعود والآلات، وكيف أخذ العرب من الفرس والروم -وقت إعادة بناء الكعبة- بعض الألحان التى أسقطوا منها ما لا يتفق مع ذائقتهم الغنائية، وحقيقة الأكذوبة التاريخية التى تقول إن زرياب، الملحن الذى اشتهر فى الأندلس خلال القرن الثالث الهجرى، هاجر من بغداد إلى الأندلس لأن الموصلى تآمر عليه لقتله! الكلام القديم/الجديد حول حرمانية الغناء يحلله النجمى مستعينا برأى الإمام أبى حامد الغزالى من كتابه «آداب السماع والوجد» الذى كتبه فى القرن الحادى عشر الميلادى -ولا تزال المشكلة تؤرق البعض حتى الآن- عن الجانب الدينى والروحى فى الغناء والموسيقى، وفضلهما على البشرية. النقطة المهمة هنا أيضا التى يرصدها النجمى، هى أن الخلفاء وأبناءهم كانوا يغنون ويلحنون، خصوصا فى عهد الأمويين والعباسيين، وحسب الكتاب فإن الغناء والموسيقى تدهورا مع تدهور سياسات هذه الدول واندثارها بعد ذلك، كما أن كتب تحريم الغناء كانت تزداد كلما ابتعد رأس الدولة نفسه عن دعم الفن. الفصل الأهم فى الكتاب فى رأيى هو الثانى، الذى يتحدث عن شيوخ الغناء المصرى وتلاميذهم، وكيف كان لشيوخ الأزهر وخريجيه والدارسين فيه، أهمية كبرى فى تطور حركة الغناء العربى، حيث كان معظمهم يعمل على تأليف القصائد وتلحينها وإنشادها، وكان لهم الفضل فى تخليص الغناء والألحان من التأثيرات العثمانية والفارسية -فترة حكم محمد على وما بعدها- وأن الشيخ شهاب الدين محمد والشيخ عبد الرحيم المسلوب هما من نهضا بالغناء خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر، بينما يخص التواشيح والأدوار الغنائية، وأشهر ما تبقى من تواشيح المسلوب هو «لما بدا يتثنى»، وبالطبع بعد ذلك الشيخ سلامة حجازى الذى عمل مؤذنا فى بداية حياته، وفنان الشعب سيد درويش، وعلى يد الشيخ المنشد على محمود تتلمذ موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ويكفى أن نعرف أن شيخ الجامع الأزهر عبد الله الشبراوى فى إحدى فترات القرن الثامن عشر هو صاحب قصيدة «وحقك أنت المُنى والطلب» التى لحنها وغناها الشيخ أبو العلا محمد، ثم أم كلثوم واستعان بجزء منها عبد الحليم حافظ فى أغنيته «يا سيدى أمرك». سيد درويش كان له أخ فى الرضاعة هو الكاتب المرحوم محمد لطفى جمعة، الذى يروى عنه كمال النجمى قصة موت درويش، وأنه مات بسبب الكوكايين ولم يقتل كما أشيع وكتب أكثر من كاتب وقت موته «اجتمع فى إحدى ضواحى الرمل بامرأة كان يحبها، فشرب وطعم وغنى، ثم حقن نفسه بحقنة كبيرة من المورفين، وشم مقدارا من الكوكايين والهيروين، فأغمى عليه ولم يفق من غيبوبته». بالطبع الكتاب لا يكتفى بكلام لطفى جمعة عن درويش، لكن النجمى صاحب المؤلفات الغنائية يبحث فى دور درويش فى الغناء المصرى وأدواره التى اعتمد عليها المغنون فى ما بعد فى بداية حياتهم. يفيض النجمى بالحديث عن أم كلثوم ودورها فى الغناء، وما أسهمت به فى تطويره، راصدا الانتقالات الفنية فى حياتها بدءا من غنائها بملابس الرجال وحتى انتقال الذائقة الغنائية الشبابية إلى المطرب الجديد فى ذلك الوقت.. عبد الحليم حافظ. هنا يرصد الكتاب قصة طريفة.. فبعدما صارت أم كلثوم من أشهر الأسماء فى العالم العربى، ظهرت خلال العشرينيات وأوائل الثلاثينيات مغنيات كثيرات، أطلقت إحداهن على نفسها «أم كلثوم»، فوزعت «أم كلثوم» الحقيقية إعلانات باليد نشرتها الصحف بعد ذلك تقول فيها: «أنا وحدى أم كلثوم (الأصلية)! أنا أم كلثوم إبراهيم البلتاجى، وأما أمهات كلثوم الأخريات فإنهن أمهات كلثوم زائفات لا يعترف كلثوم بأمومتهن فى فن الغناء»! كتاب «تراث الغناء العربى» رغم أهميته فى التعريف بأدوات الغناء والمغنين ودورهم فى تطور الفن، فإنه يعانى من الإسهاب الشديد فى تفاصيل ليس لها علاقة بالموضوع الذى يناقشه، كما أن طريقة النجمى فى الكتابة يسوؤها أنه يتحدث فى موضوع «سطرين» -هو موضوعه الأساسى- ثم ينتقل إلى آخر ويكتب فيه صفحات ويعود ليكمل ما بدأه فى سطرين، حيث يكون قارئه قد انشغل بتفصيلته الجديدة.