هذا الوصف السياسي للدور الثقافي المصري في إطار الثقافات العربية على تعددها ووحدتها في مشتركاتها وتنوعها، شاع لدى بعض المثقفين في بلدان المغرب العربي، ويبدو أن بعض ظلال هذا الوصف السلبي لا يزال مستمراً لدى بعضهم! قرأت وسمعت هذا الوصف في بعض الكتابات والحوارات معهم أيام الدراسة في جامعة السوربون باريس الرابعة في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وقد أبديت ولا زال شديد الانزعاج من وصف دورنا الثقافي الناعم بالإمبريالية الثقافية، لأنه يجافي الحقائق التاريخية، ويبدو أن هذا الإدراك السلبي يسود بين بعض الإعلاميين التلفازيين، ففي أثناء سفري إلى صالون الكتاب الجزائري، أجرت إحدى القنوات التلفازية حواراً معي، وسألني مقدم البرنامج في أحد أسئلته عن تحيز الروائيين والمثقفين المصريين للأعمال الروائية المصرية وعدم تحبيذهم للسرود الروائية الجزائرية والعربية! وكان ردي أن هذا الرأي ينتمي إلى الصور النمطية المسبقة والسلبية عن الثقافة المصرية والمبدعين في إطارها، وأن عديد الكتابات الجزائرية الروائية والقصصية تنشر في بعض دور النشر الخاصة، وتجري ندوات وحفلات توقيع لها ويتناولها بعض نقاد الأدب المصريين، وأن ذلك يمثل امتداداً تاريخياً لنشر وقراءة وتحليل ونقد للأعمال الفكرية والأدبية الجزائرية قبل استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي. بعد نشأة الدولة الوطنية الجزائرية في أعقاب الاستقلال مثل كتابات مالك بن بني التي ترجمت ونشرت في دور مصرية، وأعمال ميلود فرعون، وكاتب ياسين، ومحمد ديب، ومالك حداد، وآسيا جبار، ومدرسة الجزائر التي أسسها البيركامو وهو الجيل المؤسس للأدب الجزائري الحديث بالفرنسية، وكذلك جيل السبعينيات عبد الحميد بن هدوفة والطاهر وطار وواسيني الأعرج وخلاص الجيلاني، ثم جيل التسعينيات أحلام مستغانمي وبشير مفتي وزهرة الديك وسواهم من الكتاب والتي قرأت أعمالهم، وتباع في المكتبات المصرية. هذا الحضور والقراءة والنقد لهذه الأعمال وتمثلها هو جزء من الفوائض الثقافية التاريخية المصرية، وهو الانفتاح على الأعمال الإبداعية الشعرية والروائية والقصصية العربية على تعددها وتنوعها وهو جزء من سمات الثقافة المصرية. من هنا يبدو الحديث عن إمبريالية ثقافية، أو شيفونية مصرية من قبيل الأوهام والأكاذيب التي يرددها بعض المثقفين العرب سواء بسوء أو حسن نية. اعتقد أن ترويج هذه الأوهام والمغالطات يعود لعديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي: إن الإنتاج الإبداعي السردي في الرواية والقصة القصيرة والشعر وتحولاته من العمودي إلى الحر إلى قصيدة النثر في بعض البلدان العربية والمغاربية، لا يزال حديث الإنتاج سواء قبل الاستقلال أو بعده، سواء في التقاليد الأدبية أو تطور الأجناس الأدبية، وفي الفنون التشكيلية على تنوعها، بقطع النظر عن عديد الأعمال الإبداعية المتميزة سواء بالعربية أو الفرنسية، من ناحية أخرى عدم تطور الحركات النقدية في هذه البلدان إلا في العقود الأخيرة في المغرب وتونس والجزائر، كنتاج لترجمة الكتابات النقدية الفرنسية والأوروبية. الحساسيات الوطنية التي ارتبطت بدولة ما بعد الاستقلال وسياساتها الخارجية ونزاعاتها الإقليمية حول بعض المواقف والأزمات والمشكلات الإقليمية بين الدول العربية بعضها بعضاً. هذه الحساسيات السياسية الوطنية أثرت سلباً إلى حد ما على بعض مواقف المثقفين والكتاب المغاربة من الدور الثقافي المصري، لاسيما من بعض الكتاب والمبدعين ذوي المواهب العادية والذين لم تصل أعمالهم إلى المثقفين والنقاد والمصريين، ومن ثم لم يتم التعريف بهم عربياً عن طريق الحركة النقدية المصرية في مصر والمشرق العربي. من ناحية أخرى كان التركيز على عملية بناء الوطنية داخل كل بلد عربي – كما في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية – يؤدي إلى نقد بعضهم الدور الثقافي المصري المفتوح على عالمه، وعلى المنطقة العربية، وتصور هؤلاء أن ثمة هيمنة ثقافية مصرية، وأن النعرات الوطنية في المجال الثقافي والأدبي سوف تؤدي إلى تركيز الاهتمام الداخلي من الدول حديثه الاستقلال ونخبها الحاكمة على الكتاب والأدباء المحليين، ومن ثم بناءهم لمكانتهم وزيوعهم الداخلي، أو في الدول المجاورة. نسيان بعضهم أن تاريخ الثقافة المصرية الحديثة بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر مع حركة النهضة المصرية، وبناء الدولة القومية، وتشكيل الأمة المصرية الحديثة في إطار مقاومة الاستعمار البريطاني، مذاك، ولا يزال كانت مصر تشكل ملاذاً، وحاضنة ثقافية للمثقفين العرب لاسيما اللبنانيين والشوام والعراقيين والسوريين الذين نزحوا إليها هروباً من نير الاستعمار العثماني وطغيانه. كانت مصر بمثابة رئة ثقافية، ومختبر كبير للأفكار الحديثة الوافدة من أوروبا، من خلال حركة البعثات الخارجية، والترجمات وبناء المدن الحديثة كالقاهرة والإسكندرية وغيرها من المحافظات الأخرى، وتشكلت ثقافة المدنية الحديثة وعمرانها ونمطها المعماري على النسق الأوروبي – القاهرة الخديوية والإسكندرية، وحياة الجاليات الأجنبية والمتمصرين منهم، وتفاعلهم الاجتماعي والثقافي على نحو أدى إلى تحول القاهرة والإسكندرية إلى مدن كوزموبوليتانية مفتوحة على ثقافات المتوسط وأوروبا. هذه الأجواء الخصبة من التفاعلات ساهمت بفعالية في احتضان الأصوات الإبداعية في إنشاء المسرح والتمثيل وكتابة النصوص المسرحية، وفي الرواية والقصة القصيرة، والشعر، والموسيقى – التأليف الموسيقي وكتابة الأغاني- والغناء، ونشأة الفن السينمائي، والنحت والتصوير التشكيلي والفوتوغرافي، والإذاعة، والفنون وهندسة المعمار وتخطيط المدن، والجامعات الحديثة. عالم ثقافي مفتوح على المنطقة العربية، استطاع أن يخوض تجاربه الحداثية في هذه المجالات المختلفة، ومن ثم كان كبار المغنيين والمغنيات المصريين مع أشقائهم العرب، وفي التلحين الموسيقى، والممثلين في السينما ... إلخ كانت مصر ولا تزال تستقبل التجارب والأصوات الشعرية والروائية والقصصية العربية من المشرق العربي، وكان كبار المثقفين المصريين يستقبلون بحفاوة أشقائهم ويتحاورون ويتبادلون الأفكار على تعددها. هذه التجربة التاريخية في إطار بيئة شبه ليبرالية مفتوحة على المنطقة العربية وأوروبا، هي التي أدت إلى بناء القوة الثقافية المصرية الناعمة وتأثيرها لأنها رادت المنطقة في التحديث المادي وبناء المؤسسات الحديثة في الدولة، وفي المجتمع ومنظماته الطوعية، في ظل مجال عام مفتوح وحر وفي ظل ثورة يوليو استمرت مصر مركز جذب للمثقفين اليساريين وغيرهم. من ناحية أخرى نستطيع القول أن السرديات الحدثية هي أبنة المدنية لاسيما فن الرواية الذي يعتمد في بناءه على التركيب والعلاقات المركبة، وهي ما أعطى للروائيين المصريين ميزة نسبية تاريخياً في ريادة التجارب الروائية من الجيل المؤسس ما قبل السرد المحفوظي وما بعده إلى جيل التسعينيات من القرن الماضي وإلى الآن! وساهمت الجامعات والحركة النقدية داخلها وخارجها في تحليل ونقد الإبداع المصري، ومن المساعدة على تطويره، مع حركة الترجمة عن اللغات الأوروبية الأساسية الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. من هنا كان التأثير الثقافي المصري مرجعه نوعية وكم الإنتاج الثقافي في الآداب والنقد والفلسفة والعلوم الاجتماعية والموسيقى والمسرح والسينما والغناء والفنون التشكيلية، وفي ذات الوقت انفتاح التجارب الثقافية المصرية على المبدعين العرب في المشرق، وبعض المثقفين في المغرب العربي. هذا التقليد الثقافي التاريخي لا يزال مستمر نسبياً في هذا الصدد ومع ذلك لا يزال بعض المثقفين يكرر مقولات غير صحيحة عن عنصرية وتمركز مصري ثقافي حول الذات، أو إمبريالية ثقافية مصرية، وكلها لا تعدو أن تكون محضُ أوهام.