المواجهة السياسية تزداد حدة وسخونة فى واشنطن، والشعب الأمريكى يحاول أن يعرف ويتبين فى حدود قدراته تبعات الإغلاق الحكومى الذى بدأ جزئيا وإن كان يتزايد حجما وتأثيرا وربما يمتد أيضا لأيام أكثر. وبما أن العام المالى للحكومة الأمريكية انتهى يوم 30 سبتمبرالماضى فإن المبلغ المتبقى من المساعدات العسكرية المخصصة لمصر ويبلغ 584 مليون دولار قد تم نقله إلى الحساب الفيدرالى الخاص بمصر فى نيويورك. جين ساكى المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية وهى تحاول أن تشرح هذه الخطوة حرصت على التأكيد أن قرار الإدارة الأمريكية الخاص بالمساعدات لمصر لم يحسم بعد، وأن الإدارة تواصل مراجعتها وتقييمها للملف المصرى. كما أن المبلغ المودع أو المنقول إلى الحساب الفيدرالى فى نيويورك وكيفية استخدامه يرجع لواشنطن. ويذكر أن المساعدات العسكرية لمصر فى ميزانية 2013 تبلغ 1.23 مليار دولار. وكان الرئيس الأمريكى أوباما فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أشار إلى ربط هذه المساعدات لمصر بمدى تحقيق تقدم فى المسار الديمقراطى. وبالطبع اجتهد المعلقون فى تفسير وتحليل وتأويل هذه الإشارات الواردة من واشنطن فى الأيام والأسابيع الأخيرة. وما زالت واشنطن لم تعلن ولم تصرح بعد بموقفها المحدد. كما أن إلغاء نشاط الكونجرس عدا الجدل الدائر الآن حول إقرار الميزانية أدى إلى إلغاء جلسة استماع كانت مخصصة لمصر وحقوق الإنسان بها، وتحديدا انتهاك حقوق الأقليات فيها. وكان من المقرر أن يدلى بشهادته فى هذه الجلسة الأب أنجليوس راعى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى المملكة المتحدة وصموئيل تادروس الباحث بمركز حرية الأديان فى معهد «هدسون ود» ومراد أبو سبع الأستاذ بجامعة «روتجرز». وحسب ما قاله رئيس اللجنة الفرعية لإفريقيا وحقوق الإنسان والمنظمات الدولية كريس سميث فإن الجلسة كانت بهدف الاستماع إلى شهادات تتحدث عن كيفية أن الأقليات الدينية تحديدا وبالمثل المسلمين المعتدلين ما زالوا ضحايا لانتهاكات حقوق الإنسان فى مصر. ولم يتحدد بعد موعد آخر لعقد الجلسة. مساء يوم الثلاثاء غادر جون كيرى واشنطن متوجها إلى اليابان ثم إلى بالى (إندونيسيا). ورحلة كيرى المقررة من قبل لم تتأثر بالإغلاق الحكومى. خصوصا أن الخارجية بشكل عام، بما أنها تتعامل مع الأمن القومى الأمريكى، فإن أغلب نشاطاتها وميزانيتها المقررة لن تتأثر. وإن كانت المتحدثة باسمها قد حرصت على التأكيد أكثر من مرة خلال الإيجاز الصحفى اليومى بأن الملف ما زال مفتوحا للمتابعة والإقرار، والأمر ما زال مطروحا للمراجعة، وقد تكون هناك مستجدات فى الأيام المقبلة. إلا أنه تردد فى واشنطن أيضا أن زيارة الرئيس أوباما لبالى ومشاركته فى قمة التعاون الاقتصادى الآسيوى الباسفيكى قد يعاد النظر فيها بسبب ما تشهده واشنطن من مواجهات سياسية وإغلاق حكومى. والرئيس أوباما يواصل تحديه لما يمكن تسميته ب«ابتزاز الكونجرس» وأيضا يردد «لا نريد أن نكون رهينة» فى أيدى المتشددين من مجلس النواب. صحيفة «نيويورك تايمز» لم تتردد فى وصف ما يحدث بأنه «إغلاق جون بينر» على أساس أنه مرتبط ومرهون و«ضحية» لرئيس مجلس النواب. وكما قالت الصحيفة فإن الأزمة مدمرة ولا داعى لها وكان يمكن وقفها إلا أن رئيس مجلس النواب رفض. ويبدو أن هذه الأزمة سوف تمتد لأيام أخرى. وقد تحدث الانفراجة فى لحظة أو أخرى، وذلك حسب صفقة يتم التوصل إليها فيها منفعة لكل الأطراف. أما صحيفة «واشنطن تايمز» المعروفة بتوجهاتها الجمهورية واليمينية فلم تبرز على صدر صفحتها الأولى كلمة «الإغلاق» بقدر ما هللت ولوّحت بمخاطر برنامج الرعاية الصحية المسمى ب«أوباما كير». كما أن شبكة «فوكس نيوز» من جهتها تفادت استخدام كلمة «الإغلاق» واكتفت بوصف ما يحدث بأنه «تقليل من الخدمات الحكومية». ولا شك أن وسائل الإعلام الموالية لليمين لا تريد أن تتناول تبعات عرقلة الخدمات الحكومية، لأن هذه العملية بلا شك لها عواقب سياسية، ولعل أهمها انتقاد من هم وراء هذه العرقلة والوقوف ضدهم فى الانتخابات القادمة. ولم يتردد المراقبون السياسيون لأهل واشنطن فى أن يقوموا بالتنويه عن أن هذا الشلل السياسى الذى أصاب أمريكا سيدفع ثمنه غالبا الجمهوريون فى الانتخابات المقبلة. كما أن الصراع بين التشدد اليمينى و«هيمنة» أجندة حزب الشاى ستكون لها آثار وخيمة داخل الحزب الجمهورى. ولم يدع أكثر من معلق أن تفوته الفرصة دون أن يشير إلى أن نحو 80 من أعضاء مجلس النواب الذين أشعلوا فتيل المواجهة داخل المجلس هم من البِيض وولايات الجنوب. وهنا يجب الإشارة إلى أن بعضا منهم وفى إطار تشددهم أو ربما تطرفهم السياسى ومعاداتهم لما يحدث من تغييرات سياسية واجتماعية وحقوقية فى أمريكا عارضوا، بل كرهوا منذ البداية انتخاب أوباما ووجوده فى البيت الأبيض. أوباما الأسود وأيضا «المسلم» فى رأيهم. ومن ثم كانت حملاتهم الإعلامية والسياسية فى ربط أوباما ب«الإخوان المسلمين فى مصر».. «المسيطرين والمهيمنين على الساحة فى الشرق الأوسط». والحديث المتكرر عن «مؤامرات وصفقات قى هذا الإطار التآمرى». وبالطبع الكثير فى مصر هلل وأثنى ومدح هؤلاء الفاضحين للصفقات والمؤامرات الأوباماوية الإخوانية!! ما حدث فى واشنطن أكبر من مجرد مواجهة عابرة بين الرئيس والغالبية الجمهورية فى مجلس النواب. فبرنامج الرعاية الصحية أو التأمين الصحى والأموال المخصصة له واجهت الاعتراض، ومن ثم المطالبة بتغييرها أو تعديلها وأيضا تم ربط الموافقة عليها بتقديم تنازلات من جانب الإدارة. هكذا السياسة وعمليات «خد وهات» و«المنفعة المتبادلة.. يا بخت من نفع واستنفع». كل ما يشاهده المواطن الأمريكى من «سوق للسياسة» و«الابتزاز السياسى» يصيبه بالنفور من السياسة والسياسيين والعمل العام وألاعيب الحكم وأصحاب القرار من أهل واشنطن. المشهد الواشنطنى بشكل عام قد يبدو حزينا أو كئيبا. فأغلب الشوارع، خصوصا تلك التى تحيط بالكونجرس والمبانى الحكومية تكاد تكون خالية. مدينة القرار الأمريكى ومركز الاهتمام العالمى تبدو عاجزة عن حسم أمورها ومنشغلة فى قضايا داخلية ومواجهات حزبية ومساومات مالية ومعارك سياسية إعلامية تبدو «صغيرة» أحيانا و«تافهة» أحيانا أخرى. والأهم بالطبع هذا الركود السياسى الذى «يحتل الأجواء وغالبا ما يسممها». وعلى العالم كله أن يشاهد ويتابع ويتعجب!! وأيضا يتساءل: إلى متى؟!