فقد اتضح أن كل التصريحات السياسية من الجانبين طوال الشهر الأخير تحديدا، كانت تهدف إلى رص الصفوف وترتيب الأوراق، ودعم كل طرف لأنصاره. ومع ذلك، فالجانبان يدركان جيدا أن لا حرب إلا وبعدها مفاوضات وتوقيع اتفاقيات "سلام". ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها هي، متى تنتهي الحرب وتبدأ مفاوضات السلام؟ وكم سوري يجب أن يموت ويتشرد لكي تظهر الطبقة الثانية من الصراع أو مفاوضات التسوية؟ وما هو مصير الأسد ونظامه، ومصير التنظيمات الدينية والجماعات الإرهابية، حيث أن كل هذه الأطراف مجتمعة تحارب بعضهما البعض نيابة عن قوى إقليمية، وبالوكالة عن قوى كبرى؟ الجانبان الروسي والأمريكي ظلا يكذبان، ويتبادلان الاتهامات ويضللان الرأي العام بتصريحات مطاطة تحتمل أكثر من وجه، وهما يعرفان جيدا أن لا مصلحة لإيران ولا للسعودية ولا لقطر ولا لتركيا ولا لنظام الأسد في أي هدنة أو وقف إطلاق نار. ومن الطبيعي أن لا تكون هناك أي مصلحة للقوى الدينية المتطرفة ولا للتنظيمات الإرهابية العاملة على الأراضي السورية وخارجها. ومع ذلك ظل الجانبان الروسي والأمريكي يضللان ويكذبان، إلى أن أعلنت موسكووواشنطن تعليق "التفاهمات" التي توصل إليها الجانبان في جنيف حول سوريا. وفي الحقيقة، فقد كان الروس يتوقعون أن تعلن الولاياتالمتحدة عن تعليق "التفاهمات". بل وألمحت موسكو قبل ذلك بساعات إلى أن العمل وفق التفاهمات "معلق"، ثم أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمرا بتعليق الاتفاق مع الولاياتالمتحدة حول معالجة البلوتونيوم بسبب خطوات واشنطن غير الودية حيال موسكو، وأنه "بسبب تغير الظروف بشكل جذري وظهور خطر على الاستقرار الاستراتيجي نتيجة خطوات غير ودية من قبل الولاياتالمتحدة تجاه روسيا، وعجز واشنطن عن تأمين تنفيذها التزاماتها حول معالجة البلوتونيوم العسكري الفائض، وفقا للاتفاقات الدولية، قرر الرئيس الروسي تعليق سريان مفعول الاتفاقية الروسية الأمريكية حول معالجة البلوتونيوم المذكور والتعاون في هذا المجال". وذهبت موسكو إلى الاشتراط بأنها ستستأنف العمل باتفاقية البلوتونيوم مع واشنطن في حال ألغت الأخيرة العقوبات ليس فقط بشأن" قانون ماجنيتسكي"، بل وكل العقوبات الأخرى ضد روسيا (العقوبات الأمريكية ضد روسيا وفق قانون دعم حرية أوكرانيا في 2014، وكل العقوبات المفروضة ضد الشخصيات والمؤسسات الروسية، ويجب أيضا تقليص المنشآت العسكرية في دول الناتو، وضرورة حصول روسيا على تعويضات عن كل الخسائر التي سببتها العقوبات والعقوبات المعاكسة). وهو الأمر شبه المستحيل، أو بالأحرى، الأمر المستحيل. ما يعني أن موسكو أدركت في لحظة ما أن كل الأمور متوقفة، وتتجه نحو الأسوأ. وبالتالي، لن تخسر شيئا لعدوم وجود وضع أفضل من الوضع القائم، وأنها في كل الأحوال متورطة في سوريا، ولن يمكنها الخروج من هناك بسهولة. بل وتعمل الولاياتالمتحدة وتحالفها، وحلف الناتو أيضا، على تعميق الوجود الروسي في سوريا وإطالة أمده، مع فرض المزيد من العقوبات وتوسيعها. الاتفاقية الروسية - الأمريكية المذكورة وقعت في 29 أغسطس عام 2000، وقضت بتصفية فائض البلوتونيوم العسكري في روسياوالولاياتالمتحدة. وكان من المفترض أن يباشر كل من الجانبين إزالة احتياطياته المكشوفة من البلوتونيوم بحجم 34 طنا في عام 2009، إلا أن العملية تعثرت بسبب ظهور خلافات حول مصادر وحجم التمويل، كما وقعت في عام 2010 وثيقة إضافية تنص على بدء عملية المعالجة في عام 2018. وفي أبريل 2016، اتهم الرئيس الروسي الولاياتالمتحدة بعدم تنفيذ التزاماتها الخاصة بتصفية البلوتونيوم العسكري، مشيرا إلى أن واشنطن أعلنت عن تغيير تكنولوجيا معالجة البلوتونيوم من جانب واحد بشكل يسمح لها بالحفاظ على إمكانية إعادة معالجة المادة وتحويل البلوتونيوم إلى بلوتونيوم عسكري من جديد. وهذا يعني أيضا أن الاحتكاكات الحادة وصلت إلى ملف سباق التسلح، والصراع على تحديث وتطوير الترسانتين النوويتين لروسياوالولاياتالمتحدة. أما وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، فقد أوضح بشكل جيد لماذا علقت بلاده العمل باتفاقية معالجة البلوتونيوم، حيث أشار إلى أنه إجراء اضطراري وإشارة إلى أن الولاياتالمتحدة لن تتمكن من التعامل مع روسيا من منطلق القوة وبلغة العقوبات والإنذارات النهائية مع الحفاظ على التعاون مع روسيا في مجالات تخدم مصالح الولاياتالمتحدة، واتهم واشنطن بأن خطواتها غير الودية تؤدي إلى تغيير الوضع في مجال الاستقرار الاستراتيجي والحد من فرص تقليص الأسلحة النووية. وكأن موسكو لم تكن تعرف ذلك منذ البداية. ولكن هل تعليق العمل باتفاقية البلوتونيوم مرتبط بتعليق التفاهمات الروسية – الأمريكية حول سوريا؟ هذا سؤال لا يحتاج إلى إجابات سريعة، لأن الملفات متعددة ومتشابكة، وهناك قدر من الكذب والتضليل في مواقف البلدين وفي تصريحاتهما. الجانبان الروسي والأمريكي أعربا عن "خيبة" أملهما، كل حسب ما يعتقده، وحسب أهدافه. وبدأت وسائل الإعلام الأمريكية تكشف عن تسريبات بشأن نشر روسيا أسلحة هجومية على الأراضي السورية، بينما تتحدث وسائل الإعلام الروسية عن خدع أمريكية ودعم للإرهاب، وتوقعات بتدخل عسكري أمريكي مباشر في سوريا. كل ذلك، وهناك أصلا تدخل عسكري مباشر من جانب تركيا في سوريا، والطرفان الروسي والأمريكي يتجاهلان ذلك، ويغمضان أعينهما، وكأن لا شئ يحدث. ولكن من جهة أخرى، ورغم قرار واشنطن وقف عمل مجموعات الخبراء في جنيف، وسحب الخبراء (العناصر الذين أرسلوا للعمل في مركز التنسيق المشترك مع روسيا)، إلا أن موسكووواشنطن تركتا قنوات الاتصال العسكرية لتجنب وقوع حوادث جوية في أجواء سوريا. وجاءت تصريحات المندوب الروسي الدائم لدى الأممالمتحدة فيتالي تشوركين، حادة بعض الشئ، ولكنها مع ذلك تتحدث عن إمكانية إحياء العمل وفق "التفاهمات" المبرمة، والتي لم يفصح الطرفان الروسي والأمريكي عن مضمونها بالكامل إلى الآن، واكتفيا بما قاما بتسريبه أو نشره. تشوركين قال إن موسكو لا يمكن لها أن تقبل بإجراءات أمريكية أحادية الجانب في سوريا، وفي الوقت نفسه ترك المجال مفتوحا أمام واشنطن للعودة عن قرارها بإشارته لوجود فرصة لوقف الأعمال العدائية بعد إعادة التفاهم بين روسياوالولاياتالمتحدة. وشدد على أن موسكو لا تعتزم اتخاذ خطوات أحادية الجانب لتنفيذ وقف إطلاق النار في سوريا، مستبقا بذلك تقديم مشروع القرار الفرنسي إلى مجلس الأمن. وهو القرار الذي تعتبره موسكو يهدف للدفع بها نحو وقف إطلاق النار من قبل قوات الأسد بشكل أحادي الجانب. المخاوف تظهر الآن من إمكانية وقوع مواجهات عسكرية "نصف مباشرة" بين قوات التحالف بقيادة واشنطن وبين القوات الروسية المتواجدة في سوريا. في هذا الصدد تحديدا أعرب مدير مركز كارنيجي في موسكو دميتري ترينين عن اعتقاده بأن العلاقات بين روسياوالولاياتالمتحدة قد تتفاقم أكثر خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. وقال إنه "يمكننا أن ننسى التعاون، فالاتهامات والتهديدات الأخيرة شطبت مسألة التعاون. ومع ذلك، يمكن أن توصلنا هذه التهديدات إلى مستوى الصفر وحتى دونه". غير أنه ذهب إلى منطقة أبعد بكثير، حيث أشار إلى أنه "بعد انهيار التعاون بين موسكووواشنطن في سوريا، لا يُستبعد تبادل الضربات بين الجانبين على مواقع القوى التي يعدُّها كل طرف حليفة للطرف الآخر". وهو ما وصفه مراقبون بالحرب نصف المباشرة بين روسياوالولاياتالمتحدة في سوريا، والتي يمكن أن تبدأ في أي لحظة. أو يمكن أن نقول إنها بدأت عمليا منذ مساء يوم 19 سبتمبر بمجرد انتهاء موعد الهدنة الهشة التي لا تزال تثير الكثير من علامات الاستفهام، بالضبط مثل "التفاهمات" التي أثارت، ولا تزال تثير الكثير من التساؤلات والشكوك في نوايا موسكووواشنطن وحلفائهما، بينما لا يشكِّل الشعب السوري إلا مجرد ورقة مقايضة بين كل تلك الأطراف. في كل الأحوال، ورغم هذا المشهد الضبابي، فأحاديث الأروقة السياسية والدبلوماسية تدور حول تهدئة مقبلة، وطرح أفكار جديدة إضافية، لأن لا موسكو أغلقت الباب تماما، ولا واشنطن قررت التدخل العسكري المباشر في سوريا. ومن الصعب أن نتصور إمكانية نشوب حرب بين روسياوالولاياتالمتحدة على الأراضي السورية. إنها مواجهة تذكرنا بمواجهات ستينيات القرن الماضي بين الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو "السابقين" من جهة، وبين الولاياتالمتحدة وحلف الناتو "الحاليين" من جهة أخرى.