لم يعد مجديًا تكرار الحديث عن أنه كان من الأفضل إلغاء دستور نصف الليل الصادر فى العام الماضى بدلا من تعطيله ثم العمل على تعديله، كما نفعل الآن. فالدستور ينبغى أن تحكمه نظرة عامة موحدة ينبغى أن يتم تحديدها مسبقا، وهى التى تحكم باقى مواد الدستور.. وبدون ذلك يتحول الدستور إلى مواد متفرقة قد تكون جيدة أو سيئة، وقد تنسجم فى ما بينها أو تتضارب. هذا كلام فات وقته. والمهم الآن أن تبدأ لجنة الدستور مهمتها، وأن يساعدها الجميع على ذلك، وأن ينتهى هذا الحديث الذى لا معنى له حول نسبة التمثيل لهذا الطرف أو ذاك، وحول ما يراه الجميع بأنهم الأحق بعضوية اللجنة بدلا من الذين تم اختيارهم. لى مثل غيرى العديد من الملاحظات على تشكيل اللجنة. ولكن اللجنة فى النهاية فيها تمثيل لكل الأطياف السياسية ولكل المصالح الاقتصادية، وللتنوع الثرى الذى يعيش على أرض مصر. كما أنه يمثل نسبة عالية من التوافق.. وهذا هو المهم لإنجاز الدستور فى هذا الوقت الضيق. ولا أظن هنا أن الشكوى من قلة ممثلى هذا التيار أو ذاك هى شكوى حقيقية. وقد كان تشكيل لجنة دستور نصف الليل على أساس أن تستحوذ الأكثرية البرلمانية على مقاعدها كارثة حقيقية. ولهذا كان إصرارنا على أن يكون الدستور أولا وقبل أى انتخابات، وبعيدا عن منطق الأغلبية أو الأقلية. المهم أن تكون كل التيارات والمصالح ممثلة. ليس هناك فرق بين أن يمثلك عضو واحد أو اثنان أو خمسة، المهم أن تطرح وجهة نظرك، وأن يستمع إليها الجميع وأن توضع فى الاعتبار. ويقابل ذلك أن نكون جميعا ملتزمين بأن الدستور لا يصنع إلا بالتوافق بغض النظر عن عدد المؤيدين أو المعارضين فلن تمر مادة دستورية تتعلق بالشريعة الإسلامية دون موافقة ممثلى الأزهر الشريف. ولن تستطيع أى أغلبية أن تفرض شيئا بشأن الأحوال الشخصية للإخوة الأقباط إذا كانت الكينسة لا توافق وعندما يقول ممثلو العمال رأيهم فى القضايا التى تتعلق بهم فلا بد أن يؤخذ هذا الرأى فى الحسبان.. وهكذا. الحديث عن أن الأحزاب التى تصف نفسها بأنها إسلامية هى التى ستدافع عن الإسلام وتحمى الشريعة، حديث لا مكان له. كل أعضاء اللجنة، باستثناء الإخوة الأقباط، هم مسلمون يدافعون عن دينهم. وكل أعضاء اللجنهة، بمن فيهم الإخوة الأقباط، يتوافقون على تأكيد إسلامية الدولة على أن مبادئ الشريعة هى المصدر الأساسى للتشريع. المزايدة فى هذا الأمر ليست مقبولة. الإسلام فى مصر كان بخير قبل أن تكون هناك دساتير، وسيظل كذلك مهما كانت النصوص الدستورية. رغم كل الصعوبات أتفاءل خيرا. الدستور لا بد أن يعكس مصر 30 يونيو التى توحدت صفوفها، كما لم يحدث من قبل لتُسقط الحكم الفاشى وتستعيد الثورة، وتؤكد على مبادئها فى الخبز والحرية وكرامة الإنسان واستقلال الوطن. الطريق واضح.. دولة مدنية يحكمها القانون، وتتأكد فيها الحريات، وتحترَم فيها حقوق الإنسان فى العيش حرا وكريمًا. دولة لا تعرف التمييز بين مواطنيها وتمنع المتاجرة بالدين فى عالم السياسة، وتضع حدودا فاصلة بين العمل فى الجمعيات الخيرية وبين المشاركة فى الأحزاب السياسية. دولة تحقق التوازن بين السلطات وتسد كل الطرق أمام الاستبداد.. دولة تضع تعليم أبنائها وصحتهم فى مقدمة أولوياتها، وتعرف أن العلم هو طريق المستقبل. الطريق واضح، ولذلك فالمهمة لن تكون صعبة إلا إذا تعمد البعض التعطيل، وهو ما لن يسمح به الشعب على وجه الإطلاق. كل القوى الوطنية مطالَبة اليوم بتسهيل عمل اللجنة وخلق مساحات واسعة من التوافق. الملايين التى خرجت فى 30 يونيو، ثم فى 26 يوليو تريد دستورا على مقاسها وليس على مقاس جماعة أو عصابة تستبيح الوطن وتهد إرادة الشعب، كما حدث فى دستور نصف الليل الذى ظن «الإخوان» أنه طريقهم إلى «التمكين» فكان طريقهم إلى السقوط. أرجو أن يكون الجميع قد تعلموا الدرس، وأن يكون الدستور القادم هو دستور كل المصريين الذى يعكس روح الثورة ويؤسس للدولة الحديثة التى نتشارك جميعا فى بنائها على قدم المساواة. على بركة الله، وبإرادة الشعب تبدأ لجنة الخمسين عملها. أرجو أن تتذكر مشهد لجنة الغريانى وهى تؤدى مسرحية «إسرق الدستور.. واجرى» لتدرك عظمة ما فعله شعب مصر، وهو يسقط الفاشية ويستعيد الثورة فى 30 يونيو!!