عاشت مصر عقوداً مظلمة فى عهد مبارك وفيها تم سحق جميع التيارات السياسية. واستخدم النظام الإخوان كفزاعة للغرب، وقال للجميع إما الديكتاتورية وإما فاشية نظام الإخوان. وحين بدأت شرارة الثورة بتحالف كبير من مجموعات من الشباب من مختلف الاتجاهات، ومن بينهم شباب الإخوان، وانضم الشعب كله لها، لم يرتفع شعار واحد للإخوان أو لغيرهم. وبعد الثورة اختار المجلس العسكرى لجنة لتعديل الدستور يترأسها شخصية محترمة، كان لها توجه يسارى ليبرالى ثم تحول إلى توجه إسلامى، واختار أيضاً محامياً محترماً من الإخوان ولم يتم اختيار شخصيات من تيارات ليبرالية أو يسارية أو حتى وسطية مما أثار قلقاً كبيراً فى الأوساط التى تؤمن بالمجتمع المدنى، وقد كان هذا الاختيار بداية لانقسام كبير بين التيارات الإسلامية التى تؤيد التعديلات التى صاغتها اللجنة والتيارات التى تؤيد الدولة المدنية، والتى اعتبرت أن اللجنة غير محايدة وتريد إعطاء كل الفرص لتولى أطياف الإسلام السياسى السلطة. وحدث الاستفتاء الذى زاد انقسام الأمة المصرية بالرغم من أن حضور الملايين لأول مرة كان ظاهرة حضارية عظيمة. وما حدث أن هناك كتلة عددها 2 مليون كانت ترفض التعديلات واستطاعت أن تقنع 2 مليون آخرين بالتصويت بالرفض، وكان ذلك فى المدن بصفة أساسية، وكانت هناك مجموعة أخرى من 2 مليون آخرين من ذوى التوجهات الإسلامية المختلفة استطاعوا بسهولة إقناع 12 مليون مصرى غير مسيسين، معظمهم فى الأحياء الفقيرة والعشوائية والريف المصرى، وكانت طريقة الإقناع فى معظمها عن طريق خلط الدين بالسياسة بطريقة واضحة، وكنت شاهد عيان عليها فى بعض قرى الدقهلية والجيزة، وفى بعض الأحياء الشعبية فى القاهرة.. وكانت الوسيلة سهلة وبسيطة فى شعب متدين بطبيعته وينقاد بسهولة لمقولات ذات صبغة دينية مثل «من يقول لا يريد إلغاء المادة الثانية من الدستور»، و«من يقول لا فهو يريد أن يحكم الأقباط مصر»، و«من يقول لا فهو ضد الإسلام»، و«أن تقول نعم هو واجب شرعى»، بالإضافة إلى أن اللجنة أوضحت ما سوف يتم فى حالة القول بنعم ولم تذكر شيئاً عن ماذا نفعل إذا قال الشعب لا، وقام خطباء الجمعة فى مساجد الدولة من الإسكندرية إلى أسوان بدعوة المصلين للتصويت بنعم، وهو تدخل صارخ للدين فى السياسة جهاراً نهاراً بالرغم من منع الدعاية الانتخابية يوم الجمعة، وقد اتفقت فلول الحزب الوطنى مع كل التيارات الإسلامية على أن يكون شعارهم فى المناطق التى بها تعليم أحسن وحالتهم الاقتصادية أعلى هو أن «نعم تعنى الاستقرار»، وقد استطاع الإخوان والسلفيون والجماعات الإسلامية والجهاد والصوفية وكل التيارات الإسلامية أن تتوحد جميعاً ضد الدولة المدنية وتكون مستعدة لإقامة دولة دينية بمعنى الكلمة، وكان ذلك واضحاً فى الشعارات التى أطلقتها المجموعات الإسلامية المختلفة عبر مصر كلها، والمعروف أن الدولة الدينية تحكم باسم الله سبحانه وتعالى فمن يستطيع أن يقول لا للخالق الأعظم، والتاريخ ملىء بدول فاشية مستبدة تحكم باسم الدين، كما أن تاريخ الكنيسة فى أوروبا ملىء أيضاً بظلم وقهر شديد للشعوب باسم الدين. فى العصر الحديث، لا مكان لاستخدام الدين فى العمل السياسى، بينما تم استخدام الدين بكثافة شديدة فى الاستفتاء فى مخالفة لجميع الأعراف والقواعد. ونحن نرى أمامنا الدول التى تحكم بالشريعة الإسلامية فى السودان وأفغانستان ماذا حدث لشعوبها ولمستقبلها؟، على الجانب الآخر هناك دولة مدنية فى تركيا التى تحكم بحزب ذى مرجعية إسلامية، ولذا تقدمت تركيا اقتصادياً وعلمياً فى خلال فترة وجيزة من الحكم المدنى الديمقراطى. والآن أرى أن اللجنة نفسها قد صاغت قانون الأحزاب، وهناك ملايين من المصريين يجدون أن من واجب المجلس العسكرى، الذى حمى الثورة، توسيع أعضاء اللجنة بإضافة أعضاء آخرين من كبار الدستوريين المحترمين المعروفة عنهم النزاهة ولهم فكر مخالف، وكذلك عرض القانون فى حوار مجتمعى للجميع، وهذا حق طبيعى لملايين المصريين قبل صدور قانون الأحزاب ونظام الانتخاب الذى ربما يكون قد صدر قبل نشر المقال، واللجنة لم تفكر فى طريقة تمنع استخدام البلطجة والمال فى الانتخابات بشكل فج كالقائمة النسبية مثلاً. أنا لا أتصور أن ننتخب مجلس شورى وكوتة للمرأة بعد الثورة، ثم تعاد الانتخابات البرلمانية بعد إقرار الدستور الجديد بشهور قليلة، أين الاستقرار فى ذلك وكيف يتحمل الاقتصاد ذلك؟! ولا أعتقد أن مشروع اللجنة بهذا الشكل سوف يحرم بوضوح تكوين حزب دينى أو تجريم استخدام العبارات الدينية بشكل واضح ومنع استخدام الدين فى الدعاية السياسية، حيث إنها لم تحرم ذلك فى الاستفتاء ولم تعترض عليه. وأخيراً، لقد كان الشعب رائعاً فى طوابيره المنظمة فى الاستفتاء، وأرجو أن يعيد المجلس العسكرى التفكير فى قانون الأحزاب حتى لا تنقسم الأمة وتضيع الثورة. قوم يا مصرى.. مصر دايماً بتناديك.