كل عام وأنتم والوطن بألف خير.. اليوم غالبًا عيد، وأظن أنه من غير المناسب نكء الجراح، لكنى متأكد عزيزى القارئ أنك ستعذرنى لو بدأت بالبوح لك أننى، على كثرة وثقل سنين الهم والغم والنكد الوطنى التى كابدها جيلى، لم أشعر بوجع المهانة مثل هذا الذى داهمنى (وغيرى) وطَيّر النوم من عيوننا فى الأيام القليلة الماضية. لقد كان المشهد مزريًا وعبثيًّا لدرجة لا تُحتمل.. خواجات وأنطاع من كل جنس فتح لهم أصدقاؤنا الذين فى الحكم الآن أبواب البلد على مصاريعها وتركوهم ينتهكون بقسوة وجلافة وصلت فى أحيان كثيرة إلى حد السفالة، كل مقدسات ومحرمات سيادتنا الوطنية.. فى مقابل ماذا؟! لست أعرف.. وسعيا (أقرب للتسول) وراء أى هدف؟ وانتظارا لأية نتيجة؟! أيضا لست أدرى.. كل ما سمعناه كلام فارغ تافه وهلفطات خايبة بقدر ما هى مخاتلة من نوع «أعطاء فرصة للمصالحة» مع «جماعة» مارقة هى فى الواقع مجرد عصابة فاشية سرية لا تكفّ ولم تتب عن ارتكاب شتَّى صنوف الإرهاب والإجرام، حتى بعد أن خلعها الشعب من فوق أنفاسه وأزال بقوةٍ واقتدارٍ عارَها عن جبينه، ووضع بنفسه حدًّا للأذى والخطر والخراب الشامل الذى شاهده بعينه وعانى مظاهره المروعة على مدى عام كامل. عزيزى.. لأن المجال والمناسبة لا يسمحان بأن أطلق العنان لرغبتى العارمة فى بهدلة حكومتنا وكل من أسهم فى صنع هذا المشهد الشنيع الذى لا يفوق قبحَه ومهانتَه إلا أضرارُه الفادحة، ولأننى (وأنت معى غالبا) تعبنا وفى أمسّ الحاجة إلى التذرع بالعيد لكى نختلس شيئًا من الراحة، ولا أقول «الفرح»، فاسمح لى كالعادة أن أهرب بك إلى بستان الإبداع، حيث كل المعانى حاضرة ولكن بنعومة وجمال، بما فى ذلك معنى «العبث» و«انتظار» ما لا يأتى، أو ما يجب أن لا يأتى أبدًا. لقد قطفت لك من هذا البستان واحدة من أشهر روائع مبدع كبير ينتمى إلى تيار مسرح العبث، الأيرلندى حامل جائزة نوبل للأدب صمويل بيكت (1906-1989).. إنها مسرحية «فى انتظار جودو» التى أنجزها بيكيت فى عام 1947 بينما بلدان الغرب الأوروبى خصوصا، ما زالت مجتمعاتها تعيش آثار عذابات ومآسى سنوات الجمر الطويلة التى انتهت بحرب رهيبة (الحرب العالمية الثانية) كلفت البشرية، فضلا عن دمار وخراب مروعَين، أكثر من 80 مليون إنسان ماتوا لكى يتحقق الخلاص من حركات نازية وفاشية كانت قد قفزت إلى الحكم (عبر الصناديق أيضا) فى ألمانيا وإيطاليا وسواهما. فى هذه المسرحية التى استعان صمويل بيكت فى بنائها بمساحات صمت طويلة وجمل حوارية قصيرة ومبهمة جدا لكى ينقل للنظارة شعور القلق والعبث، فإن دور البطولة معقود لشخصين اثنين فقط أحدهما يُدعَى «فلاديمير» والثانى «استراجون»، ولا يقول لنا النص شيئا عنهما ولا مَن «جودو» هذا الذى ينتظرانه بغير جدوى ولا سبب.. فقط نتابع طوال العرض حوارا غريبا يدور بين الاثنين من نوع: استراجون: هيا نذهب.. فلاديمير: لا نستطيع.. استراجون: لماذا؟! فلاديمير: لأننا ننتظر جودو.. استراجون (بيأس): آه.. هل أنت متأكد أن المكان هو هنا؟ فلاديمير: ماذا؟ استراجون: يجب أن ننتظر هنا.. فلاديمير: قال لى قرب الشجرة.. استراجون: شجرة ماذا؟ فلاديمير: صفصافة.. لا أعرف. استراجون: أين أوراق الشجرة؟ فلاديمير: لا بد أنها ميتة. استراجون: تبدو لى أقرب لشجيرة.. فلاديمير: عشبة.. استراجون: شجيرة. فلاديمير: إلامَ تريد أن تصل؟ هل نحن فى المكان الخطأ؟! استراجون: يجب أن يكون هنا.. فلاديمير: لم يقل إنه بالتأكيد سيأتى.. استراجون: طيب، وإذا لم يأتِ؟ فلاديمير: أبدا، سنرجع غدا.. استراجون: ثم بعد غد. فلاديمير: ربما.. على هذا النحو تمضى المسرحية.. يوما خلف يوم و«جودو» يُعِدّ فى رسائل ينقلها فتى صغير بأنه سيأتى غدا.. لكنه لا يحقق وعده أبدا، وينزل ستار النهاية بينما استراجون وفلاديمير ينتظران.. كل عام وأنتم بخير.