ولد جيلى من الليبيين فى حالة انتظار. أمضينا عقودًا على أمل حدوث معجزة ما. كنا محاطين بحكايات خيالية. قصص تتحدث عن الفارس الذى سيأتى ممتطيا صهوة جواده من وراء التل، ويصلح كل شىء. روجنا لجميع أنواع نظريات المؤامرة، ما عدا تلك المتسببة فى صمتنا أكثر من أى شىء آخر. تلك المؤامرة التى تقول إنه لم يعد فينا أمل. ولا يتذكر هذا الانتظار على العهد السابق سوى القليل منا. وأقل من القليل يمكنه تخيل الحياة دونه. ومن ثم، فمشكلتنا كانت تتمثل أساسا فى الخيال. فلا نستطيع تصور كيف نعيش على العمل، بدلا من أن نعيش على الأمل.
كان ذلك مستوى الأفق لدينا الذى كان غالبا كنا مسلمين به وكانت آمالنا لم تكن تبدو مقنعة. ورغم ذلك انغمسنا فيها، وعندما شعرنا فى حديثنا بالأمان، شهدت حجرات معيشتنا وموائد عشائنا كثيرًا من المناقشات الساخنة.
ولكن صمت وحشتنا باح بكل شىء. لقد بدونا محاصرين بين انهزامية ساكنة وتعبيرات عاطفية عن تطلعاتنا. كنا موجودين فى فضاء نظرى بين الواقع السياسى البائس وطموحات غير مقنعة لدينا. وانتظرنا. وكلما سَأَل أحدُهم، كما فعل فلاديمير فى مسرحية صمويل بيكت فى انتظار جودو «ماذا نفعل الآن؟» كانت الإجابة فورية ومروعة مثل إجابة استراجون «ننتظر». وهنا يتساءل فلاديمير: «نعم، لكن أثناء انتظارنا؟» فيجيب استراجون «ما قولك فى شنق أنفسنا؟». وبالنسبة لنا أيضًا بدا الخيار يحمل القتامة والكوميديا السوداء نفسيهما، وبما أننا كنا نعرف كيف نضحك على أنفسنا فهذا لم يجعل الأمور أفضل.
لكن فجأة، وعلى غير المتوقع، حدثت المعجزة. فلم يبشر بها أى فارس، والحمد لله، بل صحوة الجماهير: جوقة شديدة الحيوية والاختلاف، ليس من المناسب تشبيهها بالربيع. لقد أعادتنا من احتقار النفس واليأس.
إذ يمثل التغيير فى حالتنا النفسية، ومن ثم علاقتنا مع المستقبل شيئا أساسيا. ويشبه ما نجد أنفسنا فيه الآن حالة تذكر، كما لو أن الضباب انقشع وخلَّف مشهدًا جديدًا وإن كان مألوفا، فنحن نتعلم الحديث بلغة عملية ولدينا ولع بالتفاصيل. كما أن لدينا أملا لكننا لم نعد نحيا على الأمل. نحن مستثارون غير أننا لسنا خائفين ولم نعد ننظر خلفنا، فالطريق المفتوح أمامنا يلزمه كل انتباهنا.
نحن نحمل معنا هؤلاء غير المقتنعين وأيضًا هؤلاء الذين اقترفوا جرائم لا توصف. ولابد أن نجد طريقًا نصون به صفاء العدالة من الانتقام. فكلنا رأى الكثير جدًا من الدماء. وليس بإمكان أى شخص محو الصور من ذاكرتنا. وربما لا يكون ذلك سيئا، إذ علينا أن نظل أوفياء لمن سقطوا ولتضحياتهم. ولم يعد صمت وحشتنا يفصح الآن عن انهزامية، بل إنها تزخر بأصداء الحرب.
لم نحص قتلانا بعد، أو نقصص أثر المختفين. لكن أجمل ما فى الوقت طوله، كما اعتاد والدى أن يقول. وفى هذه اللحظة المراوغة فى تاريخينا على الأقل، يبدو الوقت فى صالحنا.