المصريون بالخارج يواصلون الإقبال على لجان التصويت في انتخابات النواب 2025    محمد عبد اللطيف يكلف التربية والتعليم بتولي إدارة مدرسة سيدز الدولية    الوطنية للانتخابات: استئناف التصويت لليوم الثانى ب105 مقرات انتخابية حتى الآن    جامعة القاهرة تطلق أول دليل مؤسسي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي    الرئاسة في أسبوع.. السيسي يفتتح محطات بحرية.. يشارك في مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة.. يوجه تكليفات حاسمة للحكومة والوطنية للانتخابات.. ويستقبل رئيس كوريا    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : فليخسأ المتقولون !?    أسعار الخضراوات والفاكهة في سوق الجملة اليوم السبت    أسعار الحديد اليوم السبت في محافظة الغربية    الدولار يسجل 47.50 جنيه في 5 بنوك صباح اليوم السبت    سعر الدولار اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 أمام الجنية المصري    معهد بحوث الصحة الحيوانية ينفذ حملات لحماية الثروة الداجنة من أمراض الشتاء    سعر كرتونة البيض في بورصة الدواجن والأسواق اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 فى المنيا    أيمن عاشور يعقد اجتماعًا مع مجموعة خبراء تطوير التعليم العالى    رئيس الوزراء يصل إلى مقر انعقاد قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرج    أوكرانيا تدرس خطواتها في ظل ضغط ترامب للقبول بخطة السلام مع روسيا    وزير الخارجية يتلقى مع مستشار الأمن القومي البريطاني    الدفاع الروسية: تدمير 69 مسيرة أوكرانية خلال ال 24 الساعة الماضية    اليوم.. مؤتمر صحفي لأحمد عبد الرؤوف وعمر جابر قبل لقاء الزمالك وزيسكو    مواعيد مباريات اليوم السبت 22- 11- 2025 والقنوات الناقلة    سيناء تستقبل أول أفواج رحلات «شباب مصر» لتعزيز الانتماء ودعم الوعي التنموي    الأهلي وشبيبة القبائل.. مواجهة القوة والطموح بافتتاح مجموعات دوري الأبطال    ليفربول يستضيف نوتنجهام فورست في الدوري الإنجليزي    شيكو بانزا يظهر فى مران الزمالك الأخير استعدادا ل زيسكو بعد وفاة شقيقه    حركة سير هادئة وانتشار أمني لتأمين الطرق في القاهرة والجيزة    بدء محاكمة رمضان صبحي في قضية التزوير    إصابة 4 أشخاص في تصادم بين سيارة نقل أموال وملاكي بالشيخ زايد    موعد تطبيق منظومة السيارات الجديدة بديلة التوك توك فى الجيزة    إصابة 28 عاملًا وعاملة في إنقلاب سيارة ربع نقل ببني سويف    النشرة المرورية.. انتظام حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    فوز «كلب ساكن» بجائزة أفضل فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية    نقابة الموسيقيين تقرر وقف مطرب المهرجانات كابونجا عن الغناء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    الصحة: اعتماد 4 وحدات رعاية أولية جديدة وفق معايير «GAHAR»    «الصحة»: اعتماد 4 وحدات رعاية أولية جديدة وفق معايير «GAHAR»    مخاطر صحية.. 4 أسباب لعدم تأجيل تطعيمات طفلك    منظمة الصحة العالمية: أكثر من 16.5 ألف مريض بغزة في انتظار الإجلاء الطبي    «قنديل» يتفقد مستشفى الشروق المركزي ومركز طب أسرة "63 مترا" ويوجه بإجراءات عاجلة    سعر الجنيه الإسترلينى اليوم السبت فى البنوك 22-11-2025    اليوم.. محاكمة 6 متهمين بقضية "خلية مصر الجديدة"    فرنسا لمواطنيها: جهزوا الطعام والماء لحرب محتملة مع روسيا    عمرو أديب: هو إحنا مانعرفش نعمل انتخابات بما يرضى الله.. اجعلوها شريفة عفيفة    حين صدحت مصر بصوتها.. حكاية «دولة التلاوة» كما رواها الناس    الاتحاد الأوروبى يدعو طرفى القتال فى السودان لاستئناف المفاوضات    «يوميات ونيس».. العمل الذي صنع ذاكرة جيل ورسّخ قيم الأسرة في الدراما المصرية    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    محمد موسى يهاجم الجولاني: سيطرتك بلا دور.. والسيادة السورية تنهار    أبرزها وظائف بالمترو براتب 8000 جنيه.. «العمل» توفر 100 فرصة للشباب    تطورات مثيرة في قضية سرقة عصام صاصا للحن أغنية شيرين    مفاجآت جديدة في قضية سارة خليفة: تنظيم دولي مش جريمة فردية    استشارية: خروج المرأة للعمل لا يعفي الرجل من مسؤولية الإنفاق أبدًا    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الأحد في الدوري الممتاز    مصطفى حجاج يكشف حقيقة الخلاف بينه وبين هاني محروس    أحمد حسن يكشف أسباب عدم ضم حجازى والسعيد للمنتخب الثانى بكأس العرب    محمد أبو سعدة ل العاشرة: تجميل الطريق الدائري يرتقى بجودة حياة السكان    عالم بالأوقاف: الإمام الحسين هو النور المكتمل بين الإمامة والنبوة    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترجمات| الأطلال المُستديرة ل«خورخي لويس بورخيس»
نشر في التحرير يوم 25 - 05 - 2016


ترجمة: هشام فهمي
لم يره أحد يترجَّل في ظلام اللَّيل الدَّامس، ولم يلحظ أحد القارب الصغير المصنوع من الخيزران يغوص في الوحل المقدَّس، لكن لم تمضِ أيام قلائل دون أن يكون هناك من لا يدري أن الرجل الصَّموت قد جاء من الجنوب، وأن وطنه كان واحدًا من تلك القُرى التي لا تُحصى الواقعة عكس مجرى النَّهر في جانب الجبل ذي الصُّدوع العميقة، ذلك المكان الذي لم تتلوَّث فيه لُغة الزِّند القديمة باليونانيَّة، حيث نادرًا ما يُصاب أحد بالجُذام. المؤكَّد أن الرجل الأشيب طبعَ قُبلةً على الوحل، ثم صعدَ الضفَّة مزيحًا -دون أن يشعر غالبًا- أوراق الحشائش الحادَّة التي تُمزِّق لحمه، وزحفَ والدِّماء تُلطِّخه والغثيان يُداهِمه إلى السِّياج الدَّائري المتوَّج بنمرٍ أو حصانٍ من الحجر، الذي أحيانًا ما كان يكتسي بلون اللَّهب، أمَّا الآن فكان لونه كالرَّماد.
كانت الدائرة معبدًا التهمَته حرائق قديمة، ودنَّسَته الآن الغابة ذات الأبخرة الزَّنِخة، ولم يعد إلهه يتلقَّى فروض الطَّاعة من البَشر. مدَّدَ الغريب جسده تحت قاعدة التِّمثال، وأيقظَته أشعَّة الشَّمس التي بلغَت عنان السَّماء. لم يشعر بالدَّهشة لمَّا وجدَ أن جروحه قد شُفِيَت، ثم إنه أغلقَ عينيه الشَّاحبتين وغابَ في النوم؛ ليس بدافِع الشعور بالضَّعف الذي سرى في بدنه، بل بكامل إرادته. كان يعرف أن هذا المعبد هو المكان المطلوب لتحقيق هدفه الذي لا تواني فيه، وأن الأشجار التي ما برحت تنمو لم تنجح في خنق أطلال معبدٍ ملائمٍ آخَر في اتجاه مجرى النَّهر كان ينتمي ذات يومٍ لآلهةٍ احترقَت وماتَت، وكان يعرف أن واجبه الفوري الآن أن يَحلُم. قُرب منتصَف الليل استيقظَ الرجل على إثر صراخ طائرٍ مزعج، ولفتَ وجود آثار أقدامٍ حافيةٍ وبضع ثمارٍ من التِّين وإبريقٍ انتباهه إلى أن سُكَّان هذه الأنحاء كانوا يتلصَّصون عليه في نومه محترمين ألَّا يدنوا منه، إمَّا التماسًا لحمايته أو خوفًا من سِحره. سرَت في جسده قشعريرة الخوف، فبحثَ عن كوَّة دفنٍ في الجِدار المتهدِّم حيث أخفى نفسه وسط أوراق نباتاتٍ لا يعرف كنهها.
لم يكن الهدف الذي قادَه إلى هنا مستحيلًا، وإن كان خارِقًا للطَّبيعة. كان يريد أن يَحلُم برجل، أن يَحلُم به بأدقِّ تفاصيله ويُخرِجه إلى عالم الواقع. كان هذا المشروع السِّحري قد استنزفَ قواه العقليَّة عن آخِرها، فإذا طلبَ منه أحدهم أن يُخبِره باسمه أو يحكي له عن مناسبةٍ ما من حياته السَّابقة، ما كان ليُحِر جوابًا. كان هذا المعبد المتداعي المقفر يُناسِبه تمامًا، إذ كان يضمُّ الحدَّ الأدنى من العالم المرئي، كما أن قُرب العاملين من ساكني المنطقة ناسبَه بدوره، لأنهم أخذوا على عاتقهم تولِّي احتياجاته القليلة.
في البدء كانت الفوضى ضاربة أطنابها في أحلامه، على أن وقتًا طويلًا لم يمضِ قبل أن تصير الأحلام أكثر منطقيَّة. رأى الغريب في منامه أنه كان يقف في مركز مسرحٍ مدرَّجٍ هو المعبد المحترِق نفسه بشكلٍ أو بآخَر، بينما امتلأت صفوف المقاعد بحشودٍ من التلامذة قليلي الكلام، وقد عُلِّقَت وجوه أبعدهم على مسافةٍ بلغَت قرونًا عديدة وعلى ارتفاعٍ هائلٍ كالنجوم، لكن ملامحهم كانت واضحةً تمامًا. ألقى الرجل على تلامذته محاضراتٍ عن التَّشريح وأوصاف الكون والسِّحر، وأصغَت الوجوه إليه بلهفةٍ وحاولَت الإجابة على أسئلته عن فهم، كأن أصحابها قد خمَّنوا أهميَّة ذلك الامتحان، الذي يعني انعتاق واحدٍ منهم من حالة الوهْم الفارغ الذي يعيشه، وانبثاقه في قلب العالم الحقيقي. في صحوه ونومه فكَّر الرجل في إجابات أطيافه، ولم يسمح لنفسه بأن يقعَ ضحيَّةً لخدع المحتالين، وفي نَواحٍ متشابكةٍ بعينها أحسَّ بذكاءٍ متنامٍ. كان يبحث عن نفسٍ جديرةٍ بأن تكون جزءًا من الكون.
بعد تسع أو عشر ليالٍ بدأ الرجل يُدرِك -بشعورٍ لا شكَّ فيه من المرارة- أنه لا يستطيع أن يتوقَّع شيئًا من التلامذة الذين تقبَّلوا تعاليمه باستسلام، وإن كان يُمكنه أن يتوقَّع شيئًا ما من الذين جرؤوا على معارَضته بين الحين والآخَر. المجموعة الأولى -وإن كانت تستحقُّ الحُب والعاطفة- لم تستطع أن ترتقي إلى مستوى الفرد، بينما استبقَتها المجموعة الثانية إلى درجةٍ أعلى بعض الشيء. ثم جاءت ظهيرة (وقد صارَ يُكرِّس الظَّهيرة أيضًا الآن للنَّوم، فلم يعد يصحو إلَّا لساعتين في الفجر) صرفَ فيها مجموعة التلامذة الكبيرة تمامًا وأبقى على واحدٍ منهم فقط. كان صبيًّا شاحبًا صموتًا، عنيدًا في بعض الأحيان، ملامحه تُشبِه ملامح الحالم به. لم تُربِكه عمليَّة استبعاد زملائه القاسية طويلًا، وبعد عددٍ قليلٍ من الدُّروس الخصوصيَّة كان تقدُّمه كفيلًا بإثارة دهشة المعلِّم. على أن نكبةً ما قد وقعَت، ففي أحد الأيام أفاقَ الرجل من نومه كأنه خرجَ من صحراءٍ لزجة، وتطلَّعَ إلى ضوء الظَّهيرة عديم الفائدة الذي حسبه ضوء الفجر في البداية، وأدركَ أنه لم يَحلُم. طوال تلك الليلة وطوال اليوم والأرق الذي لا يُحتمَل يُثقِله. حاولَ استكشاف الغابة كي يُبدِّد قواه، وبين أفرع نبات الشوكران استطاع بالكاد أن ينجَح في اختطاف بضع سِناتٍ من النَّوم تخلَّلَتها رؤى بدائيَّة لا قيمة لها على الإطلاق. حاولَ استدعاء مجموعة التلامذة إلى مخيِّلته، لكنه لم يكد يلفظ بضع كلمات النَّصيحة حتى تشوَّهَت الصُّورة أمامه ثم انمحَت. في يقظته شِبه الدَّائمة أحرقَت دموع الغضب مُقلتيه.
استوعبَ الرجل أن تجسيد المادَّة المتقلِّبة المفكَّكة التي تتألَّف منها الأحلام هو أشقُّ مهمَّةٍ يُمكن أن يتولَّاها إنسان، حتى إذا كان باستطاعته إماطة اللِّثام عن جميع غوامض كياناتٍ أعلى وأدنى، أشقُّ كثيرًا من أن يَنسِج حبلًا من الرِّمال أو يصوغ الرِّيح عديمة الملامح. أقسمَ الرجل أن ينسى الهلوسة الهائلة التي أحادَته عن طريقه في البداية، وسعى إلى العمل بأسلوبٍ آخَر. لكن قبل أن يضعَ هذا الأسلوب موضع التَّنفيذ، قضى الرجل شهرًا استعادَ فيه قواه التي بدَّدها هذيانه. هكذا هجرَ مسألة أن يَحلُم عن عمدٍ وبدأ ينام عدد ساعاتٍ معقولٍ كلَّ يوم، ولم يُلقِ بالًا للأحلام القلائل التي راودَته في تلك الفترة. انتظرَ قبل استئناف مهمَّته أن يصير القمر قُرصًا مكتملًا، ثم كان يُطهِّر نفسه في الظَّهيرة في مياه النَّهر، ويَعبُد الآلهة الأرضيَّة لافظًا مقاطع موصوفةً لاسمٍ عظيم، ويَخلُد إلى النوم فيغيب في عالم الأحلام في الحال تقريبًا وقلبه يدقُّ بقوَّة.
وفي الحُلم رأى أن الكيان كان دافئًا مبهمًا، يقترب حجمه من حجم قبضةٍ مضمومة، لون جسده البشري الظَّليل كالعقيق الأحمر، وإن كان بلا وجهٍ أو جِنسٍ بعد؛ وطوال أربع عشرة ليلةٍ حلمَ به بحُبٍّ موَسوَس. في كلِّ ليلةٍ كان يراه بوضوحٍ أكبر، وإن لم يمسه، بل سمحَ لنفسه فقط أن يَرمُقه، يُراقِبه، ومن حينٍ إلى آخَر يُقوِّمه بنظرة. تطلَّع إليه وعاشَ تفاصيله من كلِّ الزوايا والمسافات، وفي الليلة الرابعة عشرة مَدَّ إبهامه وبخفَّةٍ مَسَّ الشريان الرئوي، ثم القلب كله، من الخارج والداخل، وأشعرَه الفحص الذي أجراه بالرِّضا. عن قصدٍ لم يَحلُم لمدَّة ليلة، ثم إنه أخذَ القلب من جديد واستحضرَ اسم كوكب، وشرعَ في تصوُّر عضوٍ حيويٍّ آخَر. بعد مرور عامٍ كان قد بلغَ الهيكل العظمي وجفني العينين، أمَّا الشَّعر الذي لا يُحصى فكان أصعب جزءٍ على الإطلاق. لقد حلمَ برجلٍ كامل.. شابٍّ لا يتحرَّك أو يتكلَّم، بل غير قادرٍ حتى على أن يفتح عينيه. ليلةً بعد ليلةٍ كان الرجل يَحلُم به في منامه.
في نظريَّات نشأة الكون الغنوصيَّة يخلق خالِق الكون المادي آدم أحمرَ لا يستطيع الوقوف، وكهذا الآدم البدائي الأخرق البسيط المخلوق من التُّراب كان آدم السَّاحر الذي خُلِقَ من أحلام الليل. جاءت ظهيرة كادَ الرجل يُدمِّر فيها عمله كله، لكنه عدلَ عن قراره، (وقد كان من الأفضل لو أنه دمَّره). عندما اتسنفذَ جميع توسُّلاته لآلهة الأرض، ألقى نفسه عند قدمي التمثال الذي يُصوِّر نمرًا ربما أو مُهرًا واستجدى منه مساعدةً لا يدري ماذا تكون.. وفي ذلك المساء، عند الغسق، حلمَ بالتِّمثال.. حلمَ أنه حيٌّ، أنه يرتجف. لم يكن مسخًا هجينًا من نمرٍ ومُهر، بل كان هذين الكائنين الضاريين في آنٍ واحد، وكذلك ثورًا ووردةً وعاصفةً. أفصحَ له هذا الإله متعدِّد الأوجه أن اسمه الأرضي هو 'النَّار‘، وأن في هذا المعبد الدَّائري (وفي معابد أخرى مثله) كان الناس يُقدِّمون له القرابين ويعبدونه، وأنه بسِحره سيبثُّ الحياة في الطَّيف القادم من الأحلام، بشكلٍ سيجعل الجميع -باستثناء 'النَّار‘ والحالم فقط- يتصوَّرون أنه رجل من لحمٍ ودم. ثم إنه أمرَ أنه بمجرَّد أن يتعلَّم هذا الرجل جميع الشَّعائر، يجب إرساله إلى أطلال المعبد الآخَر الذي لا تزال أهراماته ترتفع في اتجاه مجرى النَّهر، كي يكون هناك صوت ما يُمجِّده في الصَّرح المهجور.. وفي حُلم الرجل الحالم استيقظَ من كان يحلُم به.
نفَّذَ السَّاحر الأوامر التي أُملِيَت عليه، وكرَّسَ مدَّةً من الزمن (اتَّضحَ أنها عامان في النهاية) لتعليم الكائن الجديد غوامض الكون وعبادة النَّار. في أعماقه كان يشعر بالألم من فكرة أن ينفصل عنه، فكان يتذرَّع بضرورة تعليم الكائن الجديد ليزيد يومًا بعد يومٍ عدد الساعات التي خصَّصها لأحلامه، كما أنه أعاد تشكيل الكتف اليُمنى التي كانت مشوَّهةً نوعًا. أحيانًا كان يُزعِجه انطباع غامض ما بأن كلَّ هذا قد حدثَ من قبل بالفعل.. لكن بشكلٍ عام كانت أيامه سعيدة، وحين يُغلِق عينيه كان يُفكِّر: «الآن سأصيرُ مع ابني»، وفي أحيانٍ أخرى نادرة: «الابن الذي أنشأته ينتظرني، ولن يكون له وجود إذا لم أذهب إليه».
تدريجيًّا بدأ يُعوِّده على الواقع، وفي مرَّةٍ أمره أن يضع رايةً على قمَّةٍ بعيدة، وفي اليوم التالي رأى الرَّاية تُرَفرِف فوق القمَّة. أجرى الرجل تجارب أخرى مشابهة أكثر جرأةً من سابقتها في كلِّ مرَّة، ثم بمرارةٍ لا شكَّ فيها أدركَ أن ابنه صارَ مستعدًّا لأن يولَد، بل وربما يكاد لا يطيق صبرًا. في تلك الليلة لثَّمه للمرَّة الأولى وأرسله إلى المعبد الآخَر الذي كانت أطلاله تستحيل إلى اللون الأبيض في اتجاه مجرى النَّهر، عبر أميالٍ كثيرةٍ من الغابات المتشابكة والمستنقعات. على أنه قبل أن يفعل هذا (لئلَّا يعرف ابنه أبدًا أنه كان من قبل طيفًا، وكي يَعُدَّ نفسه دومًا رجلًا كأيِّ رجلٍ آخَر) دمَّرَ فيه كلَّ ذكرى للمدَّة التي قضاها في التدريب.
نغَّصَ الملل عليه انتصاره وسلامه، وفي حُمرة أفق الغسق والفجر كان ينبطح أمام التِّمثال الحجري، ولعلَّه كان يتخيَّل ابنه يُمارِس طقوسًا مماثلةً في أطلالٍ مستديرةٍ أخرى في اتجاه مجرى النَّهر، أمَّا في الليل فلم يعد يَحلُم، أو أنه كان يَحلُم كأيِّ بشريٍّ آخَر الآن. باتَ إدراكه لأصوات وأشكال الموجودات مشوَّشًا بعض الشيء. كان ابنه يتغذَّى الآن على نقائص الروح هذه. لقد اكتملَ الغرض من حياته، وهكذا ظَلَّ الرجل في حالة وَجْدٍ دائمة.
بعد مضي فترةٍ ما، يُفضِّل بعض التواريخ حسابها بالسِّنين والبعض الآخَر بالعقود، أيقظَه بحَّاران عند منتصف الليل. لم يرَ وجهيهما، لكنهما حدَّثاه عن رجلٍ مسحورٍ في معبد الشَّمال، رجلٍ يقدر على المشي على النَّار دون أن يحترق. تذكَّر السَّاحر كلمات الإله بغتةً، وتذكَّر أن من بين جميع المخلوقات الأخرى التي تُعَمِّر الأرض كان 'النَّار‘ وحده عليمًا بحقيقة أن ابنه كان طيفًا. تلك الذِّكرى التي هدَّأته في البداية كانت عذابًا له في آخِر الأمر، وانتابه الخوف من أن يتأمَّل ابنه في هذه القُدرة غير الطبيعيَّة التي يتمتَّع بها، وبوسيلةٍ ما يُدرِك أنه كان محض صورةٍ زائفةٍ من قبل؛ ليس رجلًا حقيقيًّا، بل تجسُّدًا لأحلام رجلٍ آخَر.. ويا لها من إهانةٍ لا توصَف، يا له من جنون! أيُّ أبٍّ يهتمُّ بالأبناء الذين أنجبهم (أو سمحَ بوجودهم) بدافع الحيرة التي تُصاحِب سعادته، فكان من الطبيعي أن يخاف السَّاحر على مستقبل ذلك الابن الذي كوَّنَ ملامحه كلها في خياله حتى النُّخاع طوال ألف ليلةٍ وليلة محفوفةٍ بالغموض.
انقطعَت هواجسه فجأةً، لكن ليس من دون سابِق إنذار. أولًا -بعد فترة جفافٍ طويلة- ظهرَت سحابة بعيدة خفيفة كطائرٍ فوق تَل، ثم اكتسَت السَّماء نحو الجنوب بلون لثة المجذوم الوردي، ثم جاءت سُحُبٌ من الدخَّان أصابت معدن اللَّيل بالصَّدأ، وبعدها كان هروب الحيوانات البرِّية الهَلِعة. الذي حدثَ منذ قرونٍ عدَّة كان يُكرِّر نفسه الآن. أطلال حَرَم إله النَّار دمَّرتها النَّار، وفي فجرٍ بلا طيورٍ رأى السَّاحر النِّيران واحدة المركز تَشُبُّ في الجدران، وللحظةٍ فكَّرَ أن يجد لنفسه ملاذًا في مياه النَّهر، لكنه أدركَ أن الموت كان قادمًا ليُتوِّج شيخوخته المديدة ويُعفيه من واجباته. هكذا عمدَ إلى ألسنة اللَّهب التي لم تأكُل لحمه، بل لاطفَته وغمرَته دون حرارةٍ أو حرق.. وبراحةٍ، بمذلَّةٍ، برُعبٍ أدركَ أنه بدوره ليس إلَّا وهْمًا، أن أحدًا آخَر كان يَحلُم به.
__________________________
ترجمها إلى الإنجليزية بول بولز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.