لا يعلم الكثير من عُشّاق (زياد الرحباني) بألحانه الكَنَسيّة، ربما لأنها جاءت في لحظة استثنائية في ظل شظايا الحرب الأهلية، أو لأن الزمن طوى هذه الأسطوانة الفريدة من نوعها بعد سحبها من الأسواق، أو -وأميل إلى هذا الرأي- لأن هذه التراتيل الكنسية تبدو خادشة لصورة "الشيوعي الثائر" التي يحبها جمهور زياد له، أو متناقضة مع صفة "الإلحاد" التي يرتكز عليها الناس في فهم خطه الفني. كعادة كل الخيوط القدرية التي تنسجها الحكايات التوراتية، كانت البداية "مصادفة" غير متوقعة، فالأب (مارون عطا الله) يبحث عن موسيقي شاب ليقود جوقة قداس الشباب في كنيسة (مار الياس) بانطلياس. وأثناء حضوره مسرحية "سهرية"؛ فوجئ بموهبة الشاب الرحباني ذو السابعة عشر من عمره، والذي بدأ في تأسيس مهنته الموسيقية، سارع الأب ليلتها إلى إعطاء زياد كلمات أنشودة "نحن ساهرون"، فقدم له زياد اللحن في اليوم التالي مباشرة! كان هذا أولى خرزات المسبحة، فسرعان ما قُدّم إلى زياد المزيد من النصوص الليتورجية لتلحينها، وأثبت هذا القائد الجديد للجوقة أنه يتمتع بموهبة فريدة، فقدم أربعة ألحان أخرى: "طوبى للساعين"، "المجد لك"، "سيدي أعطنا"، ورائعته "كيرياليسون". ذاع صيت جوقة الشباب، وأصبحت تستقطب مشاركات من الرعايا المجاورة. كانت هذه نقلة نوعية بالنسبة إلى زياد، لكن سرعان ما اشتعل أوار الحرب الأهلية اللبنانية، فاضطرت الجوقة إلى التشرذم، وحمل بعض مرتليها السلاح، وقُتل بعضهم الآخر. في هذه الأثناء، توجه زياد إلى بيروتالغربية، ذات الأغلبية المسلمة، وقام بتلحين ثلاث أناشيد كنسية لم يُكتب لها أن تُجمع في أسطوانة: "العالم جائع"، "إلهي رفعت إليك يديّ"، و"الكنيسة"؛ آخر أنشودة قام بتلحينها حتى الآن. وفي محاولة يائسة خلال عام 1977، قام زياد بتجميع من استطاع من أفراد الجوقة الذين تفرقوا بين مقاتل ومغترب ومحبط، كي يعيدوا تسجيل تراتيلهم في أسطوانة حملت اسماً موحياً: كيرياليسون، أو "يارب ارحم"، وضمت خمس أنشودات للرحباني، إضافة إلى أنشودتين من ألحان بشارة الخوري. لكن، كما الأشياء العزيزة في زمن الحرب، غابت هذه الأسطوانة عن الأسواق، حتى أعيد تسجيلها مرة أخرى عام 1995. بلا شك، تعد الأنشودات الخمسة من صميم التحدي للقدرات الرحبانية، فالنصوص لا تتبع الشكل الشعري للأغنية الكلاسيكية، ولكي يتغلب زياد على الإزعاج الذي قد يسببه نثرية النص، قام باعتماد لحن مختلف لكل مقطع داخل الترنيمة الواحدة، بالإضافة إلى لحن المذهب، وفي الترنيمة الواحدة يصعب ملاحظة أنه يتم تبديل لحن بلحنٍ آخر بشكل متواصل. سنستثني فقط "كيرياليسون" لخصوصيتها، لكن بقية الترانيم تكشف عن غزارة الجمل الموسيقية التي يمتلكها زياد. يستهل الألبوم بأنشودة (نحن ساهرون)، يمكن ملاحظة نغمة البلوز في البيانو عند مفتتح كل مقطع، خاصة مع الوتريات التي تناسب حالة الترقب: "ننتظر عودتك أيها الرب يسوع"، لكن النغمة في المقطع الأخير تتغير كلية مع تغير الحالة الشعورية: "لنفرحن به كما فرح بنا، لأنه سيفرحنا ببهاء ضيائه". وفي أنشودة (سيدي أعطنا)، سنجد الطبقة الصوتية الفخيمة لسامي كلارك، تتناسب مع كونها ترنيمة Gospel، وهو غناء إنجيلي ظهر على يد الأمريكيين السود ثم بيض جنوبالولاياتالمتحدة، وأنا لا أعلم تاريخ الترانيم الكنسية في الشرق، لكني أظن ترنيمة زياد هي أول جوسبل مشرقي، مع تناغم أصوات التصفيق والبيانو والنحاسيات والكيبورد. أما أنشودة (المجد لك أيها المسيح)، فهي حالة تعاون خالص بين زياد ورفيقه الدائم (جوزيف صقر). اللحن وَتَريٌّ بامتياز ينقل حالة الرهبة، بينما يتضافر صوت جوزيف المتبتّل: "أيها المسيح ابن الله" مع هذه الصلاة الموسيقية، خاصة المدّ في كلمة "المسيح"، وتأخر حرف الحاء قليلاً، يفتح داخلك بعداً ميتافيزيقاً تتجسد فيه البشارة بمعناها الديني والموسيقي. وينبغي الإشارة إلى أن صوت (مادونا عرنيطا) التي شاركت في الغناء، كان عادياً ولم تستطع رهن صوتها لصالح اللحن. وبالنسبة لعشاق (ماجدة الرومي)، فسيجدون ضالتهم في ترنيمة (طوبى للساعين إلى السلام)، التي تم تلحينها كي تقترب أكثر إلى كونها "تهويدة"، تهويدة تنقلك إلى تلك العوالم الفانتازية المسالمة قبل النوم، مع وعدٍ -لن يتحقق- بغدٍ لا يحمل المزيد من الدماء: " ليصفح بعضكم عن بعض كما صفح الله عنكم بالمسيح". أما ترنيمة (كيرياليسون)، فهي كلمة واحدة تتكرر بمختلف التنويعات اللحنية، أصابع البيانو هي صاحبة البطولة الحقيقية، وصوت الكورس الذي يكرر "كيرياليسون" كهدير ثقيل لجموع يأست من الخلاص، فتأتي (ماجدة الرومي) بصوتها كي تختزل هذه الأصوات إلى خضوع كامل للرب، في ابتهال تتصاعد وتيرته مع ترك ثغرة تأمل الاستجابة. وعلى الرغم من هذه الترانيم تحمل توقيع زياد، إلا أن المرء يستشعر أنها تنتمي إلى التراث المسيحي بأسره، وهذه بلا شك كاشفة على بساطة الألحان وعبقريتها. ولعل المتابعين لزياد، قد ابتهجوا بدعوة كنيسة مار الياس له لتأدية هذه الترانيم في حفل كنسي منذ شهرين، فإذا استطاع زياد بآثار شيوعيته أن يدخل عتبات الكنيسة، فما هذا إلا لأن ترانيمه قد تملكت هوى "المؤمنين" ودغدغت مشاعرهم الإيمانية.